«أمانة عليك يا ليل طوِّل .. وهات العمر من الأول..» كلمات تعشقها القلوب قبل الآذان من أغنية حرص كثير من المطربين على إعادة تأديتها وتقديمها، لتخرج عنها عشرات بل مئات النسخ، التى سعت لاستغلال نجاح أغنية فريدة.
«أمانة يا ليل» التى يجهل البعض مطربها الأصلى حتى هذه اللحظة، رغم كونه حالة استثنائية فريدة وقامة كبيرة فى عالم الغناء، كارم محمود الذى تحل الذكرى المئوية لميلاده غداً، يتحدث عنه لـ«الأهرام» الدكتور زين نصار، المؤرخ الموسيقى ورئيس قسم النقد الموسيقى بأكاديمية الفنون، مؤكداً أنه فنان يستحق الكثير من الاحتفاء حتى دون مناسبة، بوصفه أحد أهم الأعلام الغنائية والفنية فى جيله.
يعود نصار بالتاريخ إلى 16 مارس من عام 1922، يوم مولد كارم محمود بمدينة دمنهور فى محافظة البحيرة، ثم نشأته التى ساعدت فى اكتشاف موهبة حقيقية وكبيرة لاقت رعاية مبكرة من الأم ومساندة قوية من مدرس الموسيقى الذى آمن بموهبته وحرص على إسناد دور كبير له فى الحفلات المدرسية.
ويرى نصار، صاحب «موسوعة الموسيقى والغناء فى مصر القرن العشرين» بجزأيها، أن لقاء كارم بـمحمد حسن الشجاعى، الموسيقار الكبير وقائد الأوركسترا المعروف آنذاك، أثناء وجوده بدمنهور، كان فرصة جديدة تنالها موهبته. فقد قدم الشجاعى لكارم نصيحة بضرورة انضمامه لمعهد الموسيقى العربية، واستمع كارم للنصيحة، وساندته الأم كعادتها بالانتقال من دمنهور إلى القاهرة فى شقة قريبة من المعهد، حتى يكون تحت رعايتها تشاركه الحلم.
ويتحدث نصار عن تفوق كارم بصورة لافتة بين زملاء الدراسة بمعهد فؤاد الأول للموسيقى، وكان من بينهم أحمد صدقى وأحمد فؤاد حسن ومحمد فوزى وعبد الحليم حافظ، موضحاً سر تميزه وبريقه فى صوت فريد من طبقة «التينور» وهى الطبقة الحادة فى صوت الرجال، وحرصه على الاستفادة من معلميه وهم كبار الموسيقيين فى زمنه، مما صقل موهبته. تلك العوامل مجتمعة جعلته واحداً من النماذج الموسيقية المُشرِّفة كمطرب ومُلحن وجد نفسه ومكانه فى سوق العمل الموسيقى خاصة وأن ما كان يشغله دائماً هو فقط الفن الذى يقدمه، على حد وصف نصار.
ويشير المؤرخ الموسيقى الكبير إلى مشاركة كارم فى 34 صورة غنائية، منها «عوف الأصيل»، و«عروس النيل»، و«صقر قريش»، و«متحف الشمع»، كما قدم 14 فيلماً غنائياً منها «معلش يا زهر»، و«عينى بترف»، و«فايق ورايق»، و«لسانك حصانك»، و«حلاق بغداد». فيما قدم عدداً من المسرحيات الغنائية لكل من أحمد صدقى وسيد درويش ومحمد الموجى، ومن أهمها «ليلة من ألف ليلة»، و«العشرة الطيبة»، موضحاً أن براعته فى تقديم المسرحيات الغنائية، جعلته الاختيار الأول لصناع أى عمل مسرحى وقتها.
واستطرد «نصار» الحديث عن روائع كارم محمود الفنية، موضحاً أنه غنى من ألحانه 187 أغنية، بالإضافة إلى 281 أغنية من ألحان غيره من كبار الموسيقيين منهم محمود الشريف، وأحمد صدقى، ومحمد الموجى، وزكريا أحمد.
ويشير نصار إلى عدد من المواقف التى لا تُنسى فى حياة الفنان كارم محمود، وتبرز جانباً إنسانياً راقياً ونبيلاً له، منها مشاركته بالغناء متطوعاً مع فرقة رضا للفنون الشعبية لتشجيع أفراد الفرقة فى بداية عملهم عام 1959. وموقفه الوطنى الرائع وقت وجوده بالجزائر، عندما شارك بالمظاهرات الشعبية هناك، والتى خرجت للتنديد بالاحتلال الفرنسى وما كان من خطف عدد من الزعماء الجزائريين. فألهب حماس المشاركين بشدوه نشيد «الأحرار الخمسة»، مما تسبب فى القبض عليه لمدة 3 شهور من قِبل الاستعمار الفرنسى حتى تمكنت الحكومة المصرية من الوصول إليه والدفاع عنه. وأوضح نصار أن هذا الموقف ظل فى ذاكرة الحكومة الجزائرية لسنوات طويلة، ظل فيها «كارم محمود» أحد أبطال التحرير الواجبة دعوتهم للمشاركة فى الاحتفال بعيد الاستقلال.
ورغم الحصيلة الغنائية التى قدمها كارم طوال مسيرته الفنية ولكن يبقى لأغنية «محلى الدهبية» رونقها ومكانتها -وفقاً لـ«نصار» - باعتبارها الأغنية الأولى التى تبثها الإذاعة المصرية له كما أنها كانت من ألحانه، مشيراً إلى أن تعيين الموسيقار محمد حسن الشجاعى مستشار الموسيقى للإذاعة عام 1953 كان بمثابة موعد آخر بينهما للتأكيد على موهبة كارم وأحقيته فى المساندة فى عالم الإذاعة.
«ممكن نقول مخدش ما يستحقه».. عبارة خرجت من «نصار» بنبرة تتأرجح ما بين سؤال وإقرار ولا تهدف سوى إلى الاعتراف بحق فنان كبير ومميز فى تقدير يستحقه دائماً دون نسيان أو انتظار لمناسبة تدفعنا للذكرى، ضارباً المثل بعدد من أغانى «كارم محمود» التى تعد من أجمل وأقرب الأغنيات للمستمعين حتى من الأجيال الجديدة قائلاً: «بيحبوها لكن للأسف ميعرفوش مين اللى بيغنيها»، الأمر الذى يشير إليه كإنذار يمكن أن يتحول لدعوة عامة لتسليط الضوء على تاريخ كبار الفنانين واستثمار الأرشيف الإذاعى لهؤلاء العمالقة، ليُنهى حديثه قائلاً: «أزيحوا عن كارم وغيره من الراحلين العظماء ستار النسيان».
كارم محمود، صاحب لقب الكروان وصوته، رحل بعد رحلة فنية ثرية فى احد المستشفيات فى لندن فى الخامس عشر من يناير عام 1995. وبخلاف الموسوعة الرائدة للدكتور زين نصار، فمن ضمن المؤلفات التى اهتمت بسيرته كان «سحر المغنى.. وجوه غنائية فى النصف الأول من القرن العشرين»، للباحث الموسيقى الشاب، محب جميل. و«أمانة ياليل» للدكتورة ناهد عبد الحميد.
رابط دائم: