احجز لى مقعدنا الدائم عند أبواب النهار.. وغن لى بصوتك تلك الأغنية التى أحببتها كثيراً.. «أنا لحبيبى.. وحبيبى إلى».
أحكى لك.. وصوت جارة الوادى يتسلل إلى شرايينى عبر مذياع الجيران فى صمت الليل.. وكل شىء يبدو موحشاً حولى.. الغرف الباردة.. ودقات ساعة الحائط.. الرتيبة.. أفق من الوحدة التى أرتميت فيها.. وأحكى لك فصلا جديدا من فصول حكايتنا العجيبة.. كان كلما تضيق بيا الدنيا وبالغرابة الصدفة: كأن يأتى على غير انتظار بعض النبض ليومى.. ويغمر حياتى بالفرح.. ما كللت يوماً انتظاره فتلك النافذة التى كنت دوماً تتساءلين عندما يطول وقوفى بجوارها واسرح فى ملكوت يعرف صاحب الكون منتهاه.
لماذا تقضين بالساعات هكذا تحدقين عبر النافذة أحترفت الصبر الطويل.. وصرت حتى الآن أرتشف فنجان قهوتى فى الصباح أمامها.. أتطلع إلى ذلك الآتى من هناك: بأقدام ثابتة ظللت على مدار السنوات وكل أزهار نافذتى تشاركنى دعوة الانتظار تلك.. واقفة صامدة كأن أبداً لا يغضبنى.. نسمة شوق.. تأتى مع حبيب صار فيما بعد أوفى الأصدقاء.. لكن شبابيك الهوى التى كان يفتحها.. كانت تحمينى من الوحدة.. واليأس.. صوتها الليلة سكينى.. وجرح وضماد.
عندما كانت تغنى: كنت أرى تلك الشرفات الحزينة تهجر الجدران..كنت أسمع موسيقى أخرى داخلى تعزف.. وتبصر لون الكلمات تحررت من الشكوى.. أضفر نجوم ليلى على انغامها.
وأكتب لك: أعترف بلون تلك الصباحات المبهجة التى جعلتنى أعيشها.. فصلا من فصول الحب شىء غير عادى وربما استثنائى جدا.. أن أقترب منه إلى ذلك الحد.. لا فواصل.. ولا حدود.. لا خوف ولا تردد ولا أمل ولا وعد.. تذكرنى كلماتها الليلة به.. وكثيراً ما كنت تتملكنى حالات الشجن تلك.. وحالات من الوجد.. لزهرتى الحمراء.. التى كان يلقنى أياها وهو مارا بالجوار.. لم أكن أعرف أن كل شىء من الممكن أن يرحل.. فكنت أتمسك بالحلم أكثر وأكثر.
لعبت الصدفة معى كل أدوارها المكرة.. أفتح نوافذ القلب.. على حذر اليوم.. طالنى ما طالنى ذات نهار.. بعيد.
لا تهجرنى لا تنسانى.. لا تتركنى للظنون.. والهموم تنال منى.. لأن العالم لم يعد عالمنا الذى كان.. ولم نعد نأمل فى لحظات صفا.. مثلما كنا تعال كلما رن الحنين.. ونسم علينا الهوى.. نسهر سهرية..
كيفك أنت مالا أنت؟؟
ترسخ حكمة المتنبى.. التى جعلتها شعاراً لى: «ما كل ما يتمناه المرء يدركه».. أتابع بدقة شريطا طويلا من الذكريات.. ضفيرتك الأولى.. رسائلك الساذجة أحيانا.. ونقاشتنا وعنادك الذى طال.
اتابع صورنا القديمة.. والصور التى احتفظت بها فى كل مكان آمن.. بعيداً عن عيون المتطفلين.. كيف كان طفلاً.. ثم شابا.. مغامراته وحواديته واخفقاته.. وحروبه.. وقفشاته.. وأغانيه عليآ المشيب قصتنا الغريبة.. أجد نفسى فى جوف الليل أرددها: «أنا لحبيبى وحبيبى إلى»، وأتذكر لحنا وراء آخر.. وصوته يردد لى: «بنت الشلبية عيونها لوزية.. حبك من قلبى يا قلبى وانتى عينايا».
الظل على نافذتى.. يحتل القمر.. وصوت يوقظ الوتر.. وعن حبى أغنى.. وعن غيمة الصيف الذى رحل.. نعم «بعدك على بالى يا قمر الحلوين».
اتذكر أشياء كثيرة.. ورددت لو ظللنا نحن كما كنا نجرى تحت المطر.. ويسابق خطونا احلامنا.. ويعود إلى.. إلى البنت التى كانت.. يملأ كفها عطر الياسمين طال وقوفى فى النافذة.. أنتظر الأحباب.. الذين لا يمرون.. أتمنى لو زارونى.. كل سنة مرة لقد ضجت حيطان القلب ونوافذه من الضجر وطول السهر.. تعيد إليه وجها ما كنت أحبه إلى ذلك القدر.
أفتش خلف كل الصفحات التى طويتها ورحلنا مثل قصته الليلة.. عند أعتاب بيت كان لنا.. تركنا كل شىء وراءنا.. إلا هو صندوق شرائط بعينها تحمل تسجيلا خاصاً بجارة الوادى.. فى إحدى حفلاتها فى الجراند كازينو بلبنان.
ويمر الوقت وأجده هكذا.. يأتينى فجأة أستعيد نفسى.. ربما.. وأكاد أبين جمال العالم من خلالها.. جمل تأخذنى إليه.. وإليك.
أطير معها.. إلى السماء.
صوت من الجنة.. يرفرف بى إلى ساحات البراح.. ولم يعد يكفى أننا التقينا أو كلما أحببت أن أراكم..أغمض عينى وأذهب مع صوت فيروز فى رحلة ليس لى فيها من عودة.
رابط دائم: