فى ذلك اليوم...كان شعبان أفندى جالسا فى حاله ــ لا به ولا عليه ــ وراء شباك البنك، عندما تقدم إليه رجل من طابور الفلاحين ومد يده باستمارة مكتوبة وهو يقول: خلص دى بسرعة وحياة أبوك. فأخذ شعبان أفندى الاستمارة ونظر فيها، كان شكل الرجل يثير الغيظ، وفى عينيه حول وبلادة.
كانت الاستمارة مكتوبة بخط فائق الجمال، ولكن شعبان أفندى لم يكن ليقبلها لأنه - وكما توقع ببساطة - وقعها أحد الخطاطين الذى كتب الاستمارة.
فما كان من الفلاح أن صمم على أنه هو الذى وقعها، وإلا ما فائدة القراءة والكتابة التى تعلمها، لتنتهى الزوبعة بتدخل مدير البنك الذى قبل الاستمارة.
موقف صعب لم يستطع أن يتحمله شعبان الذى انتفض وكأنما أصابته حمى، واتجه خارج البنك، ووصل إلى القهوة، وهناك روى القصة للجالسين بجواره. ثم ذهب إلى الجزار وانتقى قطعة كبيرة من اللحم وروى له القصة مرة أخرى. وعندما وصل البيت جلس يحكى ما حدث.
وأعاد رواية القصة لزوجته، وقبل أولاده، ودخل إلى غرفته، ورقد على السرير، وسحب الغطاء على وجهه...ومات.تصوير رائع من المجموعة القصصية" الولد الذى جعلنا لا ندفع نقودا" التى صدرت فى الستينيات لكاتبها صلاح حافظ الذى لا يعرف كثيرون أنه يحمل لقب أديب كما يحمل لقب مايسترو الصحافة المصرية.
وهذا اللقب أى الأديب صلاح حافظ ظهر أولا حسب ترتيب الأحداث والأيام بعد أن تقدم بقصتين إلى مسابقة وزارة المعارف العمومية كما حكى للكاتب رشاد كامل فى كتابه "الصحافة، السلطان، الغضب: مذكرات صلاح حافظ" ففاز وتحقق له النشر على يدى حلمى مراد، ثم ذهب بعدها إلى كامل الشناوى الذى كان يقوم عادة بأكبر دعاية لأية موهبة جديدة، لتتنوع الصحف والتجارب ويلحقه إحسان عبد القدوس بمجلته روز اليوسف، حتى إنه حين جاء أحمد بهاء الدين إلى روز اليوسف، كان صلاح معروفا وقتها، يتقاضى عشرين جنيها كاملة ويكتب باب انتصارالحياة.
وهكذا سارت الأيام، فلا تكاد توجد صحيفة فى مصر ــ والكلمة لصلاح حافظ ــ لم أعمل بها بعض الوقت. ولا يكاد يوجد فن من فنون الكتابة لم أعالجه.
ومع هذا كان لا يوجد أحد إلا ويسأله عن باب انتصار الحياة. وحتى هذا اعتبره بدايات، فقد استمر فى العمل، ليتذكره القراء بمنارات أخرى لا تقل أهمية وهى "قف" و" دبرنى يا وزير" حيث تعود أن يتبنى نظرة ناضجة ملمة بما يحدث فى بر مصر. وهكذا أصبح لقب مايسترو الصحافة معترفا به لمن عمل فى كل مجلات وجرائد صاحبة الجلالة تقريبا بما فيها الأهرام نفسه حين كتب فى مجلة الشباب فى زمن رئاسة عبد الوهاب مطاوع، وكان أول مقال هو نقد لمجموعة قصصية لمحمد عبد القدوس. ا
ختيار مدهش لكاتب يعرف الجميع تاريخه المهنى والسياسى، خاصة أنه ظل طالب الطب الذى لم يكمل دراسته أبدا، وابن الفيوم الذى ولد فى منتصف العشرينيات وجذبته القاهرة، وأحد الذين استهواهم القلم فمزجه برؤى اجتماعية وسياسية ومهنية خاصة جدا، وذهب يجرب فى عالم المسرح بمسرحية الخبر والرواية والقصة فى القطار وأيام القلق.
قصص كثيرة فى دنيا الصحافة، كان شاهدا عليها ومشاركا فيها، هذا ما تشهد به رواية "زينب والعرش" التى كتبها فتحى غانم، وتحولت إلى مسلسل شهير، تبادل كتابة السيناريو والحوار الخاص به مع صلاح حافظ. اختار فتحى غانم زينب ليحكـى عن حقبة بعينها، ولم ينس أن يدور داخل كواليس الصحافة التى عشقها ولم يجد أفضل من صلاح حافظ ليحكى معه.
وكان صلاح حافظ صاحب صوت إذاعى عذب، ولم يفته أن يسجل بصوته تعليقاته على كثير من المشاهد والأماكن. وانطلق محلقا فى عوالم أخرى منها مذكرات شارلى شابلن التى صدرت فى جزءين. فقد كان من حظه أن يكون أول من ينقل إلى العربية هذا العمل الفنى الكبير لهذا العبقرى النادر، يصعب علينا أن نحدد لصلاح حافظ قالبا معينا للإبداع والرؤى، وهو الذى وبعد عمر تجاوز السابعة والستين عاما، جلس بين أوراقه بعد محنة المرض، ليرقد على سريره، ويرحل فى الرابع من مارس عام ١٩٩٢.
رابط دائم: