يستخدم الفيزيائيون والفلاسفة مصطلح «تأثير الفراشة» أو «نظرية الفوضى» للتعبير عن أن مجرد أبسط التغييرات فى النظام الراهن يمكنه التأثير بشكل واضح على ديناميكية هذا النظام بشكل قد يفوق بمراحل الحدث الأول، وفى أماكن أبعد ما يكون عن التوقع.
وليس هناك أبلغ من نموذج الأزمة الروسية ــ الأوكرانية لتوضيح تلك النظرية، فآثارها الأمنية والاقتصادية والسياسية تتخطى أوروبا الشرقية وترسل شراراتها لجميع أنحاء العالم.
فقد ظهرت تبعات هذه العملية على الفور، وحدث تدهور متوقع للعلاقات بين روسيا والغرب بشكل عام.ولكنه أيضا خلق حالة من الذعر بين دول شرق ووسط أوروبا، وسط مخاوف من أن تسعى روسيا إلى فرض سيطرتها على المحيط السوفيتى السابق، ففى خضم الصراعات بين الدول الكبرى تكون الدول الصغيرة هى الضحية. وهو ما دفع فنلندا إلى مناقشة الانضمام للناتو. كما أن الخطوة الروسية لها تداعيات جيوسياسية شديدة على دول الجوار، لأن مسألة فرض نفوذ روسى فى مساحات كبيرة بأوكرانيا إلى جانب التمركز الدائم للجيش فى بيلاروس، من شأنه أن يمنح موسكو أفضلية أمنية تجاه أعضاء منظمة حلف شمال الأطلنطى الـ(ناتو) مثل بولندا ورومانيا وليتوانيا. أما بالنسبة للسوق الدولى، فهذه الأزمة أدت بلا شك إلى إحداث موجات متلاحقة من الفوضى، مما زاد من تفاقم أزمة العرض والطلب وتسبب فى ارتفاع أسعار السلع مثل الحديد الخام والطاقة. ومن ثم يحبس العالم أنفاسه ويراقب من كثب تبعات العملية العسكرية وتأثيرها على الاقتصاد العالمى على مدار الساعة. فبينما يلوح الغرب بـ»النووى الاقتصادي» وسارع لعزل روسيا عن نظام «سويفت» المصرفى، بالإضافة لعقوبات مالية وتكنولوجية وتجارية لا تهدف فقط إلى معاقبة روسيا ولكن لإلحاق ضرر عميق ودائم باقتصادها، غير أن تلك العقوبات لن يظهر تأثيرها الفورى على موسكو فقط وإنما ستؤدى لزيادة أسعار الغذاء والطاقة وبالتالى ارتفاع التضخم وإلحاق ضربة موجعة بالاقتصاد العالمى الذى لا يزال يئن تحت وطأة آثار الاضطرابات الواسعة التى ألحقها به وباء الكورونا على مدار قرابة الثلاث سنوات. وعلى بعد 5000 ميل (أكثر من 8000 كيلومتر وعلى وقع تهديدات مستمرة باجتياحها من قبل الصين شعرت تايوان بموجات الصدمة من العملية الروسية، فحتى وقت قريب، كانت تايبيه واحدة من أهم بؤر التوتر المحتملة فى العالم لحرب متعددة الجنسيات. وبينما ينشغل العالم بمتابعة الأزمة الأوكرانية هناك مخاوف من أن تستغل بكين الوضع وتقدم على السيناريو الأسوأ. ومع اختلاط المشاعر بالتوازى مع حالة عدم الثقة التى خلفتها هذه الأزمة هناك تساؤل حول قدرة تايوان والتزام أصدقائها بالدفاع عنها. قطعاً سيكون هناك أيضًا تداعيات فى الفضاء الإلكترونى، حيث طالما كانت لموسكو اليد العليا فى فضاء الانترنت وكانت هناك اتهامات أوكرانية لموسكو باستهدافها، وبالتالى هناك احتمالية بانتقال المعركة العسكرية إلى العالم الرقمى لتبث الفوضى فى جميع أنحاء العالم.
مخطئ من يظن أن نتائج وتبعات العملية العسكرية الروسية ستقترن فقط بشرق أوروبا أو حتى العالم الغربى فقطـ، وإنما يجب علينا الاستعداد جيداً لمواجهة موجة من تغييرات تطال التوازنات السياسية والاقتصادية على حد سواء فى وقت تبدو فيه حكومة بوتين والمجتمع الروسى مستعدين لمواجهة وتحمل عقوبات غربية طويلة الأمد.
رابط دائم: