استغرق الاتحاد الأوروبى أياما، منذ بدء العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، لإظهار التماسك والوقوف على مستوى الحدث. لا يمكن إنكار أن دول الاتحاد تجاوزت الكثير من خطوطها الحمراء وتنازلت عن الكثير من مصالحها، فى سبيل اتخاذ إجراءات رادعة وموحدة ضد روسيا التى تسببت فيما وصفته مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية بـ11 سبتمبر أوروبا.
فما يجرى فى أوكرانيا أصبح يؤشر لبداية تغيير عميق فى العلاقات الدولية واضطراب للنظام الذى نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، بحسب اعتراف رئيس الوزراء الإيطالى ماريو دراجى. الدعاية الإعلامية حول قوة الإجراءات الاقتصادية الأوروبية التى تم اتخاذها ضد روسيا والقرارات غير المسبوقة بمد أوكرانيا بالسلاح، تؤكد أنها لحظة تحول أوروبى وأنه قد حان الوقت لميلاد سياسة خارجية أوروبية موحدة. لكن هل المشهد الراهن يؤشر لتحول على أرض الواقع لمصلحة أوروبا أم روسيا؟ فالاتحاد الأوروبى وحلف الناتو وقفا عاجزين أمام تلبية نداءات كييف بإعلان انضمامها بشكل استثنائى إليهما، رغم ما سيكون لذلك من رمزية كبيرة فى تحدى روسيا وإثبات الهيمنة فى لحظة حاسمة. كما تخاذلوا أمام طلب أوكرانيا بفرض حظر جوى فوق «أجزاء مهمة» من الأراضى الأوكرانية، ناهيك عن إرسال قوات. وظهر واضحا أن دول الاتحاد الأوروبى والناتو غير راغبين ولايمكنهما الدخول فى أى مواجهة عسكرية جديدة. وأمام ارتفاع صوت المدفعية الروسية، لايبدو تعزيز قوات «الناتو» لوجوده فى دول شرق أوروبا الأعضاء به وتأكيد الالتزام الصارم بالبند الخامس من معاهدة الحلف، سوى إثبات أنه لم يصبه «موت سريرى» كما سبق وأن قال الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون. (وينص البند الخامس على أن الهجوم على أى عضو فى حلف شمال الأطلنطى هو هجوم على كل الأعضاء فى الحلف). وحتى تبدل مواقف دول مثل بولندا والمجر وإيطاليا إزاء استقبال مئات الآلاف من اللاجئين القادمين من أوكرانيا، فسيخضع لاختبار الأيام والظروف الاقتصادية. ومن غير المستبعد – مع طول أمد الأزمة- أن نسمع دول الاتحاد تتشاجر حول تقاسم أعباء الحرب واستضافة اللاجئين.
أما السلاح الاقتصادى، فلم يخف خبراء الاقتصاد أنه ذو حدين، وأن المواجهة فيه بمثابة معركة النفس الطويل. فهذا السلاح لم ينجح فى إركاع دول (مثل إيران) هى أقل شأنا من روسيا عضو مجموعة الدول العشرين الاقتصادية الكبرى. وأكد الخبراء أن إخراج روسيا من النظام المالى العالمى أو على الأقل من اقتصادات اليورو والدولار، يعد خطوة مزعزعة للاستقرار المالى الدولى بشكل كبير. ناهيك عن الخسائر التى ستتكبدها كبريات الشركات الأوروبية والبنوك الأوروبية التى لها مصالح داخل روسيا.
وقد كشف سوق الغاز عن يد أوروبا القصيرة. فيؤكد الخبراء أن الإحجام عن مد العقوبات إلى قطاع الغاز الروسى يحفظ لموسكو مصدر دخلها الأكبر ويخفف من أثر العقوبات المفروضة ضدها. وتجدر الملاحظة فى هذا الصدد إلى أن قرار «اخراج روسيا من نظام سويفت للتحويلات المالية العالمية»، يستبعد الغالبية العظمى من البنوك الروسية التى تستطيع روسيا من خلالها الاستمرار فى بيع منتجاتها من الطاقة فى الأسواق الدولية. وتعد روسيا أكبر مصدر للغاز على مستوى العالم، وثانى أكبر مصدر للبترول، ويتفق الخبراء على أن الارتفاع المستمر فى أسعار الطاقة، يزيد من الربح الروسى فى كل متر يباع من الغاز وبرميل من البترول، كما يزيد أيضا من معدلات التضخم فى العالم، بما يهدد بتأثير مدمر على الاقتصاد العالمى. فهل ستكون المفاوضات الجارية الآن بين مسئولين روس وأوكرانيين على حدود بيلاروس بمثابة «يالطا» جديدة لتقاسم النفوذ فى الفضاء الأوروبى، فى ظل تمسك روسيا بأهدافها وعلى رأسها ألا يقيم الغرب منشآت عسكرية فى دول الاتحاد السوفيتى السابق ومغادرة الأسلحة النووية الأمريكية أوروبا؟
رابط دائم: