«1»
تراقصت النخيل ككائنات خرافية, تلوح بأزرع كثيرة وتتلاطم كمصارعين عمالقة, قامت الزوبعة وصفرت الريح وثار الغبار, فارتجت النباتات فزعة, ركبت الحمار عائداً, الزوبعة خلفى تحمل التراب وأوراق الشجر الجافة, وتلقيها فى أوجه السائرين, الناس تسرع إلى البيوت ساحبة خلفها البهائم, الحمار أوقف أذنيه وانتفخ منخاره, وراح ينهق نهيقاً صاخباً, نخسته بالعصا فركض, لحقت بنا الزوبعة, فقفز الحمار عاليا ورفس وألقانى من فوقه وانطلق, حاصرنى الغبار وطن الريح وهرولة العائدين, كانت الشمس يخنقها الشفق, والسماء حمراء دامية, والسحاب الداكن كالجبال, أسرعتُ إلى البيت, قبلى وصل الحمار, وجدت الجدة منكمشة فى حاصلها تبتهل.. قلت: الحمار أوقعنى يا جدة.
قالت: أين أبوك؟
ــ لا أعرف.
ذهبتُ إلى أمى, التى كانت تطلق الطير والبهائم من الزريبة, فراحوا يرتعون فى الدار.
قلت: أمى.. الحمار أوقعنى.
لم ترد ظلت مشغولة بإخراج البهائم إلى براح الدار.
خرجتُ إلى الدرب, تجمع العيال يتقافزون ويتصايحون, وبدأ المطر يتساقط رذاذاً, وأختاى الصغيرتان سعيدتان باللعب تحت المطر, سحبتهما وعدت للدار, وجدت الجدة خرجت من الحاصل وجلست أسفل جدار ترتعش. صاحت: أين الرجال؟
جاءتها أمى مسرعة وضعت عليها بردة صوفية. قائلة: اهدئى يا حاجة.
تمتمت الجدة: إنه الشتاء.. البرد.
ما رأيتها الجدة خائفة هكذا.. الجدة التى أحتمى فى حضنها الحصين من غضب أمى ومن يد أبى.. والتى تطرد الكلاب الضالة والثعالب إذا هاجمت الطير بعصاها التى تتوكأ عليها.. فتفر أمامها كالنعاج.. وتدهس العقارب بكعبها الجاف.. وتبيت فى البيت الشرقى تحرس البلح, هل تعرف الخوف وترتعش؟
زاد المطر فانكمشت الجدة أسفل الجدار كقطة مذعورة.. قالت: الطف يارب.. ركبى سابت وحلقى جف.. اسقنى يا ولد.
أسرعتُ لها بكوب الماء, شربت بلهفة, تناثر الماء على خديها وصدرها, ويدها ترتعش وجسدها كله ينتفض, وعينها ترقب السماء فى هلع.
بدأ البرق يشقق السماء بنوره الخاطف, وأطلق الرعد أصواته الزاعقة, قالت: بطنى اضطرب.. الحقينى يا بنت خذينى للحمام.
أخذتها أمى وذهبت بها وهى مستندة على أمى كخرقة بالية.
زاد عصف الريح, عبثت بما فوق أسطح البيوت, تلقيه إلى حيث تحمل أياديها الطويلة, امتلأت ساحة الدار بالقش والحطب, وصفقت الأبواب بعنف.
جاء أبى وأخى الأكبر. صاح أبى: أنتم هنا والناس كلها تركت البيوت.
حمل أبى الجدة التى صارت كطفل أصابته الحمى, ترتعد وتهذى: الشتاء.. البرد.. الموت.. الغياب.
أنا وأخى يمسك يدى فى الخلف, وأمى حولها البنتان الصغيرتان أمامنا, نمر على البيوت الخالية من ساكنيها, تعلقت الجدة برقبه أبى ونحن نسير فى الدروب الموحلة, قلت لأخى هامسًا: أين كنتما؟
فقال: غطينا البلح فى البيت الشرقى بالمشمع والجوالات.. حتى لا يفسده المطر.
وصلنا للجامع, الرجال أسفل السقيفة, والنساء والأطفال داخل الجامع, دخلتُ مع الجدة وأمى والبنتين, العجائز جالسات أسفل الحوائط, والنساء يثرثرن والبنات يلهين فى المنتصف, اقتربتُ من الباب الرجال يستقبلون القادمين من الدور, يتساءلون من بقى فى داره, ازداد البرق والرعد وانطلق الماء بغزارة, فتهامس العجائز «الطف يا رب», وسرعان ما تحول ما حول الجامع إلى برك, فالتصق الرجال بالحوائط, وراحت أسقف البيوت البوص والجريد تتطاير فى السماء وتستقر فى النهاية على الأرض مهشمة, والماء يندفع قادماً من الدروب ومسالك الجبل, ويمر بنا أمام الجامع وينحدر إلى أسفل, سأل رجل عجوز «هل ظهرت فى السماء نجوم؟», لم يجبه أحد, نظرتُ إلى السماء الداكنة والسحاب تكاثف كدخان الفرن المتوهجة, فقط البرق خاطفاً الأبصار بنوره المباغت متشققاً كفروع شجرة الشوك, ثم تغرق السماء ثانية فى الظلام الدامس, سمعنا طقطقة كسريان النار فى الهشيم, ثم ارتطام صاخب, فتهامس الرجال «بيت من انهار؟», وحل الصمت ثانية, جاء رجل غارق فى الأوحال. قال «البيوت فى الخور محاصرة.. وبيت أبى راضى وقع», حين وصل الخبر إلى النساء فى الداخل, انتحبت امرأة فى زاوية, تجمعن حولها يواسينها. قالت من بين دموعها «أين الرجل؟.. أين أبو راضى؟», قرر الرجال الذهاب إلى البيوت المحاصرة فى الخور, عدتُ إلى داخل الجامع, النسوة ساكنات بعضهن نام, دخلتُ مع الجدة تحت بردتها الصوفية, البرد ينخر عظامى وجسدى ينتفض. قلت: لماذا يعبث المطر بالبلد والجامع آمن؟
قالت: لأنه بيت الله.. والله يحمى بيته.
كان الدفء قد شملنى والأصوات سكنت.. وأنا أبحث عن إجابة لسؤال آخر.. حين سألته لها. قالت «نم», لكن حقا لماذا لا يحمى الله بيوت الناس من المطر والسيل.. مثلما يحمى بيته؟
«2»
حين كبرتُ لم تكن لى زوجة وأطفال أخاف عليهم من البرد, ولم تكن لى أم عجوز أحملها وأرمح بها فى الشوارع الزلقة, لم يكن لى نخل أخاف على بلحه من المطر, لكنى لم أعد أدخل مع النساء والعيال إلى داخل الجامع, الذى عرفتُ أن الناس تحتمى به.. لأنه مبنى بالأسمنت والحجر و سقفه مسلح.. وأنه بنى بالنقود التى تبرع بها أبناء البلد المسافرون, وليس كما قالت الجدة أو كما ظنت, لكنى أظل عاجزاً عن فهم أصحاب البيوت الأسمنتية القليلين حين ينضمون إلينا فزعين, كنا ننتظر أسفل السقيفة, حتى يأتى الخبر بأن البيوت محاصرة فى الخور, نهرول إلى المحاصرين هناك, نحمل الأطفال والعجائز, ونطلق البهائم, لم أكن أمتلك حماسهم الشديد, ولا بدائل مناسبة, أخى كانت له أفكاره الملائمة للمواقف العصيبة, وشجاعة مكنته من إخراج جثة عوض من تحت الأنقاض الموحلة, وإنقاذ أولاد سلامة حين ارتفع الماء حول بيتهم, فكرة الكنب المقلوب واستخدامه كقارب كانت فكرته ونفذها ببراعة, وله مجهوده الوفير فى بناء البيوت الجديدة, يحمل الأحجار الثقيلة والطين.
«3»
حين كبرتُ أكثر كان البرد برداً يخلع العظام, وكان المطر مطراً حقيقيا.. لكن البنايات هنا لا تهتز.. لا ترتجف, الناس لايهرولون إلى الجامع.. لا يحملون العجائز والأطفال, أنا فقط يحاصرنى خوفى القديم.. حين يتسرب المطر من سقف الحجرة الخشبى, وكلام الجدة ينخر أذنى.. ويدها الواهنة ثقيلة على صدرى.. تخبطه.. توقظنى.وكلماتها كالرصاص «ما ينقصك كى تسافر.. كلكم تسافرون.. وتنسون», وألملم بقايا الحكاية القديمة, وأن الرجال بعد أن جاء المطر وأفسد البلح والزرع وهدم البيوت, صنعوا على عجل عششا للنساء والأطفال وسافروا فى البلاد.. يبحثون عن الرزق, وأن أغلبهم أعجبه الحال فى المدن, وأصبح يأتى فى زيارات قصيرة متباعدة, ومن ليس خلفه زوجة ولا أولاد.. ماعاد.
حين جئت وقابلته لم أكن أتصور وجوده وجوداً حقيقياً, كان كشىء أصدقه لكن بلا اقتناع, حتى قريبى الذى جاء بى إليه, لم يكن مهتماً به وبوجوده, لولا توصية أبى, لما جاء معى, هو فرح جدا بى وتهلل, ولعن الأيام والظروف, راح يسأل عن كل شىء.. عن الناس.. عن الجدة.. وأبى وأمى التى لم يرها.. لكنه يعرف أباها.. عن إخوتى.. عن البلد والزرع والنخل.. حين قلت أرضنا ونخلنا.. قال: التى ورثتها جدتك عن أبيها, حاول أن يكون حميميا معى ومتألفاً.. لكن مسافة ما كانت بينى وبينه.. رغم شبهه الكبير بأبى.. ورغم تبريره بأنه ظل فترة لا يستقر فى عمل.. والنقود قليلة.. وأن أباها لديه أرض لم يخربها السيل.. وأى مساعدة يقدمها لن تؤثر عليه.. بينما هو هنا لم يكن يستطيع توفير أى نقود, فى رأسى مئات الأسئلة جاهزة.. تريد أن تُلقى عليه.. لكن شيخوخته لن تحتملها.. وأنا لا أجرؤ حتى على مجرد التلميح, كان عجوزاً جداً.. ومهزوماً وفاشلاً تماماً.. الحجرة الحقيرة فوق السطوح بأثاثها البالى.. العمل المتواضع والزحام الخانق.
باغتنى متسائلاً: ماذا يقول الناس عنى؟.. هى ماذا تقول؟
أربكنى السؤال.. وأطلق أمامى عشرات التخمينات التى ظنها الناس.
باغتنى ثانية: تكلم.. هل يقولون إنى جبان.. نذل.. هل يقولون إنى أصاحب الساقطات.. أو أدمنت الخمر أو الحشيش.
كان عصبياً يتحدث بيديه ورأسه وعينيه وجسده النحيل كله ينتفض.قال:هى تعرف إنك قادم إلىّ.. هل حكت لك عن السيل الذى جاء وقتها.. عن البيت المنهار.. والولد الكبير تحت الركام.. والزرع المجروف.. هل تكرهنى تماماً؟
قلت: لا أدرى.
_ هل يمكن أن تسامح؟
قالها كأنه يحدث نفسه.. ثم أكمل: حين صنعت خصاً مثل الناس التى جرف السيل بيوتها.. رفضت السكن به.. بقيت فى بيت أبىها.. قالت «سافر مثل الرجال.. كى تبنى داراً جديدة.. كى تربى الولد الباقى».
لم أقل له دعاءها عقب صلاتها, بأن يموت غريبا وحيدا.. كفرع شجرة ساقط فى النهر.. يأكله العطن.. لا يجد براً يرسو عليه.
فى الأيام الأخيرة كانت تنتابه الهواجس والكوابيس المزعجة, كان يهذى. قال الطبيب «إنه يحتضر», كنت ألح عليه فى العودة, لكنه رفض بصلابة, كان يصيح «لن أعود إلا جثه هامده», حتى الخطاب الذى جاء من أبى رداً على خطابى, والذى يطالبنى فيه بأن آتى به على الفور, جاء متأخراً, فها أنا أعود به, ليس كما تمنى أبى, لكن كما أراد هو لنفسه, أو تحقيقاً لدعائها الدائم.
الطريق موحش تماماً ومظلم.. إلا من مصباحى السيارة – التائهين فى الشبورة – والتى كأنها تجرى فى مكانها, وقريبى الجالس بينى وبين السائق يدخن كثيراً, ويتحدث عن البلاد البعيدة والأهل الطيبين بفخر وانكسار معاً, والجسد المسجّى خلفى.. وأرى أمامى تلك القضبان التى قال إنها كانت تحول بينه وبين السفر, تلك التى كان يراها كلما ذهب إلى محطة القطار, تلك التى لم أصدق إنه حقيقاً يراها.. لكنها أمامى الآن منتصبة.
حين توقف السائق. قائلاً: هل ستشترى شيئاً؟
وقال قريبى: لماذا طلبت الوقوف؟
لم أرد.. فقط نزلت مرتعشاً.. وعبرت الشارع بجسد منكمش.. مشيراً بيد متجمدة للسيارات الذاهبة فى الاتجاه الآخر.
رابط دائم: