خطاب مفتوح إلى «عزيزة» زميلة أم كلثوم فى كتاب سيدنا
رحلت عزيزة فى صباها.. كانت رغم جلابيتها الفلاحى وطرحتها السوداء مثل زميلتها «هيفاء كالبان يلتف النسيم بها».. وردة بريئة متفتحة انطفأت من كثرة الخلفة والتجاهل مثل كل وردات مصر الخديوية.. كانت عزيزة شاطرة ولهلوبة، لم تكتشف عزيزة الكنز الكامن داخلها.. انتظرت سيدنا يكتشفه فاختفت سيرتها.. بينما تحركت زميلتها فى الفصل والتختة وسعت وهتفت بشكواها وغنت.. فصار حديثها السحر والنغم.. وأصبحت مطربة الشعب ومعجزة الغناء.. واليوم وجدْتُ أكثر من مناسبة لأكتب إلى جارتنا فى القرية عزيزة عن 100سنة فى أيام الهوى .. ذهبت كالحلم فى سيرة زميلتها.. فاطمة بنت الشيخ إبراهيم السيد البلتاجي.. أم كلثوم.
المفتاح السحرى للفلاح
عزيزتى عزيزة؛ لو طال بك العمر أو رجع الزمان لاعترفت لك فاطمة بأنها ما عبرت الطريق من دار أبيها الحاج إبراهيم البلتاجى ودخلت الفصل قبل الجميع الا لتفتح درجك المشترك مع درجها.. وتكسر لوحك الأردواز الذى يشبه لوحها .. تخيلت ببراءة أن كسر لوح الأردواز سوف يساوى الرءوس.. أنتِ تفتقدين المفتاح السحرى للشطارة.. وهى تجد إجابة لسؤالها البريء: لماذا زميلتى عزيزة اشطر مني؟.. رأتكِ تكتبين كل كلمة وراء سيدنا على اللوح وتجيبين على كل سؤال.. بينما هى تقضى كل حصة تتأمل وتندهش وتبحث عن حل.. لم تكتف بقضم الأظافر ومص الأصابع والانزواء فى ركن الفصل.. لم تنتظر من يأخذ بيدها ويدلها على طريق النباهة.. فكرت وسعت لكسر لوح الكتابة المفتاح السحرى للشطارة .. وليتها ما سعت.. فمجرد دخولها الفصل.. وبعد أن فتحت درجك وأخرجت لوح الأردواز..فتح باب الفصل مفتش وزارة المعارف.. وجدها وحدها ..فارتبكت لحظة تخيلت أنه يتبعها، لكنه سألها عن سيدنا.. فاستعادت ثباتها وأجابت: سيدنا على وصول..
ليس ذنبها ان سيدنا الشيخ عبد العزيز وصل مرتبكا.. فوبخه المفتش: بقى البنت المفعوصة تحضر قبلك .. مش عيب على عمتك.. وانتهت المهمة والحصة.. لكن سؤال المفتش ظل يؤرق عمامة الشيخ..
بالله عليك يا عزيزة؛ هل يستحق حضور زميلتك أم كلثوم المبكر أن يضعها سيدنا فى وجه المدفع كل حصة.. وينتقى الآيات الصعبة.. ويقول لها سمعى يا فالحة.. ويختار الكلمات الصعبة ويقول لها اشرحى يا فالحة.. اكتبى يا فالحة، امسحى يا فالحة.. بسببه كرهت كلمة فالحة.. لأن سيدنا أطلقها حجة لتأنيب زميلتك عن ذنب لم تقترفه.. لكن الذنب الحقيقى هو شعورها بالاضطهاد لدرجة جعلها لا تنسى يوم الجمعة.. قبل أن تعرف بعد ذلك بسنين أن الجمعة يوم ميلادها 31 ديسمبر 1898.. لكنها حفظته لأنه اليوم الذى مات فيه سيدنا.. وهو اليوم الذى مشت بين أرجل الرجال فى جنازة لأول مرة .. مشت لتتأكد بعينها أن الشيخ عبد العزيز مات.. لم تصدق انه يمكن أن يموت.. وبعد موته ماتت معه كراهيتها للتعليم المجاور للدار ..وأحبت التعليم فى مدرسة الحوال التى تبعد عن دارهم فى طماى الزهايرة 6كيلومترات ..كانت تذهب اليها مشيا على الأقدام رايح جاي.. لم تجد فى كتاب الحوال شيخا يضطهدها ..أوشيخا يوبخها بكرباج يا فالحة .. بل وجدت الشيخ إبراهيم جمعة.. لا يسألها الا اذا رغبت فى الإجابة ورفعت يدها..أحبت التعليم بسببه .. واحبت الأناشيد بسببه .. واستطاعت أن تحفظ المواويل وسيرة النبى التى كان يعلمها أبوها إلى أخيها خالد ليكون سندا على المعيشة ويساعده فى الانفاق على الأسرة ..وبدأت طريقها الطويل للشهرة والمجد حين كان عمرها خمس سنوات .. نقطة انطلاق ثومة لحظة ضبطها أبوها تقلده فى المديح النبوي.. أعجبه صوتها فانتبه.. وأغراها بطبق من المهلبية لو ذهبت معه الى حفلة شيخ البلد، وذهبت.. وطلب منها ان تغنى نفس النشيد وهى جالسة على الكنبة بجواره.. فنزلت تحت الكنبة تعطى قبلة لقطتها.. ثم خرجت بها فى حضنها والعروسة التى صنعتها جدتها فى الحضن الآخر.. ووقفت بينهما فوق الكنبة.. وغنت أمام الناس.. كانوا حوالى 15 نفرا.. لم تشعر بالخوف ولا بالخجل.. فقد كانت تغنى لعروستها.. وعندما كان الفلاحون يصفقون لها كانت تشاهد السعادة فى عيون قطتها وتحلم بصحن المهلبية من أبيها، وتكرر اصطحابها للحفلات فى كل القرى والعزب والبلاد.. مشيا أو فوق ظهور المطايا..أو فى عربة قطار الدلتا القديم.. وزاد عدد الجماهير التى تستمد من صوتها وأغانيها العربية العون فى مواجهة آلامهم ومشقة الحياة فى ظل الحرب والفقر والإنجليز .. دون أن تدرى جلال المهمة الوطنية التى تقوم بها.. أبعد من سعادتها فى طاعة أبيها ومساعدته فى رزق الأسرة .. زاد عدد حضور حفلتها من 15رجلا الى عشرين.. وثلاثين.. ومائة وألف وعشرة الاف ومائة الف.. وملايين.. الجديد فى أدائها هو الخوف.. لازمها منذ تركت الغناء فى الأرياف وانتقلت مع والدها بصحبة الشيخ أبو العلا محمد إلى القاهرة المحروسة..
هذا العام 2022ميلادية، مرت مائة سنة بالضبط على نزولها القاهرة لأول مرة بناحية حلوان للغناء فى قصر الأمير عز الدين يكن، بعد أن ركنها فى البدروم الى أن ينتهى الشيخ إسماعيل سكر من وصلته الرئيسية وفى آخر الحفل نادى البنت الفلاحة ليجربها.. فإذا بالبنت المحتشمة بعقال بدوى وملابس ريفية تهز الحاضرين بصوت مثل عودها شديد الصلابة والاستقامة والتنظيم .. وعلى رأس الذين اهتزوا الشيخ سكر ذاته دعاها للإعادة والتكرار.. كما دعاها متيما بصوتها الأمير عز الدين لتغني.. كان أول متمرد على سماع غناء أجداده الأتراك من الأسرة الشركسية.. وشارك طلعت حرب فى تأسيس أول بنك للمصريين فقط.. وتقاضت المغنية الموهوبة القادمة من الأرياف أجرا قدره ثلاثة جنيهات، وأعطتها أميرة القصر خاتما من ذهب..
وعندما عادت للقاهرة للإقامة فى العام التالى تحمس لها الشيخ مصطفى عبد الرازق وهو من كبار الملاك بالصعيد ورعاها ودافع عنها وظل متحمسا لخطها الغنائى حتى بعد أن أصبح وزيرا للأوقاف وشيخا للأزهر الشريف، بدأت حياتها المستقرة فى القاهرة بالغناء على مسرح البوسفور بميدان محطة مصر بقصيدة «الصب تفضحه عيونه» للشاعر أحمد رامى قبل أن تعرفه.... وقبل أن تصبح حديقة الأزبكية مسرحها المفضل..
وودعت صاحبتك الغناء لعروستها وقطتها وصحن المهلبية.. وبدأت تغنى بخوف لأن الغناء صار كل حياتها.. وحياتها تدور حول الغناء.. منه تستمد النجاح والشهرة ومنه تستمد الفلوس والمعيشة..
وطوال 50 سنة يا عزيزة بعد أن فتح صوتها القاهرة .. وسمحت العاصمة لصوت نسائى مصرى أصيل يزاحم أغانى الرقص والخلاعة، ورغم شهرتها واتساع جمهورها ، لكن الخوف لم يغادرصاحبتك كلما وقفت على المسرح، الخوف من العيون التى تستمع.. كأنها تغنى لتثبت أنها فالحة كما تفهم الفلاح والشطارة.. وليس الفلاح كما يفهمه الشيخ عبد العزيز، كلما كبرت يزداد خوفها أكثر.. ولا بديل لها عن النجاح، حتى لا تخذل المتفرجين.. ولأن الخوف يصيبها بالرهبة والقلق كانت تحتاج للجلوس فترة تستجمع قواها وتجفف يديها من العرق كل غنوة.. وكأنها أول مرة تغني..
واليوم صارت القاهرة بعد 100سنة من فتح قلبها لثومة دنيا غير الدنيا، لا أجد أصدق من وصف مجلة لايف الأمريكية للتغيير حين كتبت عام 1962 أن كل شئ فى مصر يتغير إلا شيئان لا يتغيران :الأهرام وصوت أم كلثوم .. حتى المجلة التى قالت هذا الكلام جرفها تيار التغير الذى جرف على الصحافة القديمة وماتت.. وبقى صوت صاحبتك يا عزيزة اقوى من أى خط سكة حديد وخط طيران وخط تليفون وشبكة تواصل واتصال ألكترونى .. وأسست بصوتها جامعة للقلوب .. وإن صارت الكتابة عنها غير الكتابة.. وصار الأدب غير الأدب..
قانون الفلاَح والترَقي
عظمة على عظمة يا ست .. عظمة يا ثومة.. وسام صكه الوجدان خصيصا لأجل صاحبتك ..صار اسمها يعنى الغناء.. الصبايا يرددن كلماتها واسمها بافتخار.. والفتيان يتيهون بها غراما وتنضج عواطفهم على إيقاع أغانيها .. وهذه «أم سيد» تلقن ولدها البكر أول دروس الشارع: ولا ينبيك عن خلق الليالى كمن فقد الأحبة والصحاب.. اسمع وانصت، لا تفوت حفلة الخميس..وأغلقت كتاب المدرسة وقالت: اسمع أولا.. وكرر وراء ثومة.. ثم اكتب الغنوة .. وسمع سيد وردد خلف الراديو ودندن فى الطريق والغيط.. وفوق الحمار فصار فى عظمة أبو فراس الحمدانى وعنترة بن شداد.. تاج العلاء فى مفرق الدهر ودراته.. وسمع صوت والده الباكى الداعى قبل أذان الفجر يشاركها فى الضراعة.. «عالم الأسرار علم اليقين .. يا كاشف الضر عن البائسين» .. يبكى ولا ينتظر من يواسيه.. درس فى اليقين بأن الله يسمع صوته ويرى .. لا يفارق ذاكرتى دفء صوت الفلاحة سنية، تدق بابنا بالورقة والقلم وخير صباحين يا حاجة، تتبسم أمى لجلال المهمة التى تنتظر ولدها وتقول لها :خطه بينزل يشرب فى كراسة الواجب لكن حروف مضبوطة على جواباتك لسى محمد .. تؤكد الخالة سنية فى دلال: الله يحرسه هادى وسرى عنده فى بير.. ثم جلست تملينى لزوجها كلام صابح من حفلة الخميس: أطاوع فى هواك قلبى وأنسى الكل علشانك.. وأذوق المر فى حبى بكاس صدك وهجرانك.. ثم تنتبه وتقول: بلاش كلمة «صدك».. سى محمد عمره ماصدنى ولا خيب ظني، خليها بكاس غيابك وهجرانك..
ويزداد الجوى بيّا.. يبان الدمع فى عنيا..
وأبات أبكى على حالي.. وتفرّح فيّا عُذالي..
ولما أشكى تخاصمني.. وتغضب لما أقول لك يوم..
وتصمت الخالة سنية: مش قادرة..، فأكمل من مخزونى بصوت مسموع ، نفس الأبيات التى كسرت بها حاجز الصمت مع راوية جارتى فى الفصل.. كانت تسكن فى فصول المهاجرين فى المجمع جاءت من الإسماعيلية عقب حرب 1967، كانت هادئة ورقيقة وتنظر فى غربة وشرود.. كسرت سكوتها وكتبت فى كراستها ما كررته للخالة سنية: ياللى مليت بالحب حياتى ..روحي.. قلبي.. عقلي.. حبي.. وأكاد أصرخ: صوتك..نظراتك.. وهى لا ترد..
ولا أنسى فلسفة الأستاذ محمود الباز مدرس الجغرافيا.. حين كان يحرض كل مهمل فى الواجب باستنهاض حلمه.. فيجيب التلميذ؛ طبيب أومهندس أوظابط ، فيوبخه الأستاذ فى شفقة الأب: ما نيل المطالب بالتمنى .. ثم يقطع عجر بيت الشعر الذى غنته ثومة كلمة ..كلمة.. على إيقاع حد المسطرة، كأنه يثبت قانون الفلاَح والترَقى فى عقولنا بمسامير:
ولكن .. تؤخذ ..الدنيا .. غلابا.. وعادنى الشوق للأحباب
عزيزتى عزيزة؛ تمنيت لو سمعتى لوعة أمير القوافى فى هواها كما سمعتها .. وتأملت الدلال فى صوتها وهى تحكيها للإذاعى وجدى الحكيم.. «قصيدة سلوا كئوس الطلا.. كتبها ليا أنا مخصوص لم تنشر فى ديوان.. دعانى لحفل اقيم فى منزله الجديد على النيل.. فلبيت الدعوة وجاملت وغنيت.. وفى اليوم التالي، جاءنى على الباب شوقى بك وأعطانى خطابا مغلقا وقال: إنها قصيدة من وحيك أنت أهديها اليك.. وقرأتها وطربت لمعانيها ولصدق مشاعره.
واحتفظت أم كلثوم بخطاب أمير الشعراء، وعندما حلت ذكرى وفاته العاشرة، أعطت قصيدته لرامى ليعدها للغناء فرفع اسم أم كلثوم ووضع مكانه «حمامة الأيك» .. وغنت أم كلثوم الغزل الصريح الذى كتبه فى حبها أمير الشعراء.. وتسلطنت كأنثى ، وزينت اللحن بحليات بشجن صوتها النادر ولوعة الفراق والشوق حتى دمعت عيناها..
ودمعت عيناى ياعزيزة وأنا أسمع «سلوا كئوس الطلا» من راديو السيارة طوال الطريق من المنصورة إلى قريتنا حيث قضيت طفولتى وأيام الصبا فى جوار قريتكما.. طماى الزهايرة:
هيفاء كالبان يـلـتـف الـنـسـيـم بـهـــا
ويلفت الطير تحت الوشى عطفـاهــا
حـديـثـهـا الـسـحـر الا أنـــه نـــغـــــم
جــرت علــــــى فــم داود فــغــنـاهـا..
وعادها الشوق للأحباب فـــانـبـعثـت
تبكى وتـهـتــف احــيـانـا بـشـكـواهــا
ياجارة الأيك أيام الــــــهـوى ذهـبــت كالحلم..
رابط دائم: