رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

جمل الملح

أيمن رجب طاهر

مهداة إلى صديقى محمود فرغلى



وأبٌ

كان لنا جملًا سمحًا

فى زمنٍ سمح

أرددُ بداية القصيدة العاشرة التى حفظتها عن ظهر قلب من ديوان أهداه لى صديقى الشاعر، أتأمل غلاف الديوان، أريح رأسى إلى الوراء، كعادتى تمسح عيناى الصور المعلقة على الحائط، صورته الأبيض والأسود ترجرج ذاكرتى، أبى الجالس أمام أشعة الشمس، يقرأ فنقبل عليه أنا وأخى، ينحى مجلة العربى جانبًا ويجلسنى على وركه ويباغته أخى فينط على الآخر، يربّت على كتفينا ويعطى كلا منا إصبع الملبن، يضم كفىّ وينفخ أنفاسه فيهما فأشعر بالدفء يسرى بين أصابعى الباردة، برفق أخلع من وجهه نظارته السميكة، أثبت ذراعيها على وجهى وأقلده، أرفع المجلة وأقلب صفحاتها؛ لأتفرّج على صورها الملوّنة، يضحك ويستعيد النظارة، ويعود إلى انهماكه فى القراءة الصامتة، نجرى نحو أمى، بالصحن تغترف الدقيق من الزكيبة المجاورة وتقلبه وسط الغربال الناعم، نطلب منها أن تنفض كفيها وتلعب معنا، لكنها أصرّت على إنهاء غربلة الدقيق لتبدأ فى تربية الخميرة لخبيز الصباح، الغربال بين كفيها يعود إلى حركته البندولية، وأخى الصغير ذو العامين جوارها يدفن يده فى قفة النخالة ويلحس، أطارد فراشة «أبو دقيق»، نتبارى أنا وأخى فى الإمساك بها لكنها تراوغ وتحوم وتقودنا إلى كرسى أبى، تجرأ أخى واختطف النظارة أما أنا فشددتُ يديه وأمام إصرارنا سجد على مفرش الصوف كما يفعل فى صلاته..

يبرك

فوق فراش طفولتنا،

يجعل أربعةَ الأطراف قوائمَ

هودجه طفلان اشتبكا:

رجلين، وكفين، وقلبين،

ورحْلتنا لمواسمَ من فرح دائم

فى ولهٍ صبياني

لم نضيّع فرصة أريحيته المعتادة وفى سرعة تشابكت أيادينا متقابلين وحين اطمئنّ إلى استقرارنا فوق ظهره نهض فى روية، تأرجحنا وكاد أخى السمين ينقلب فتصايحنا

يتعالى شوق الطفلين بلا وجلٍ:

أقبلْ يا جملَ الملح

قمْ يا جملَ الملح

عدْ يا جملَ الملح

والجملُ البشرى يعافر

يجعل من فقاعات الضحكات ولائم

............

يومًا كان يسعل بشدة، ولا يهدأ صدره إلا حين يملأ الملعقة بدواء داكن ويشربه دفعة واحدة، يتبعه بابتلاع أقراصٍ من عدة أشرطة البرشام، ومن حين لآخر يفرد كفه على قلبه، ظللنا واقفين أمامه، هزّ رأسه وارتسمت ابتسامته الهادئة، لم يشأ أن يغلق باب فرحتنا ودون أن نطلب انحنى ونخّ، استقبلنا ظهره، لا أدرى لمَ شعرت أنه يعلو، يعلو حتى كادت رأسى تلامس اللمبة النيون، طفق يحبو، ونحن كعادتنا نتمايل، شقيقتنا الكبرى حملت أخانا الصغير ووضعته بيننا، تخالطت صيحاتنا ورفرفت ضحكاتنا وأبى يتحرّك، يكمل دورته فى بطء، يتنهد، صدره ينهج، تتسارع أنفاسه، زفر نفسًا وسكن جسمه، انكفأ فانفلت تشابكنا وتراجعنا ملتصقين بالجدار منتظرين نهوضه، أتأمل قسمات وجهه المطمئنة، لحظات وتفجرت صرخاتٌ مصطدمة بجنبات البيت..

حتى جاء لنا زمنٌ

وتداعت فيه الأحلام، وهيضت تحت هجيِر اليتمِ نسائمُ.

أخى يحتمى بى وكلانا ملتصقٌ بدرابزين السلم الخشبى، عيوننا المحملقة فى انكسار تتساءل: لماذا أخرج أقاربنا الرجال أمى الباكية وأختى التى تلطم خدها وبقية السيدات من البيت، ولماذا يقوم هذا الرجل باستحمام أبى الممدّد على خشبة، ولماذا يلبسه الثوب الأبيض ويلفه بملاءة، وترفعه الأيدى وتريحه داخل صندوق خشبى عريض، ولماذا منعنى أحد أعمامى من صحبتهم حين خرجوا حاملين النعش من باب البيت الكبير يشقون عويل الحريم والأيدى تلوح بالمناديل البيضاء، ولماذا ولماذا؟؟ تساؤلات حيرى نغزت صدرى وظلت تؤلمنى حتى أجابت عنها سنوات العمر التاليات.

............

أرنو إلى صورتنا الكبيرة أبى وأمى متجاورين فى جلستهما، حولهما أنا بين إخوتى الذين لم أرهم منذ أعوام، بأصابع باردة أمسح عنها الغبار، أسفلها صورتى القديمة وسط ابنيّ اللذين لا يعرفان جمل الملح، النظارة مركونة على المكتب تجاورها أعداد مرصوصة من المجلة، أتأمل ألوان أغلفتها الباهتة وأربّت عليها، دمعتى تتعرّج فأشعر بملوحتها المُرّة على شفتى، فتنفلت بقية كلمات القصيدة:

ها قد ذهب الجملُ

إلى بيداءِ الوحشةِ فى صمتٍ

فلماذا بقيت أكياسُ الملح؟

............

> المقطوعات من قصيدة «جمل الملح» للشاعر د/ محمود فرغلى المنشورة بديوانه «سرير لفردين» وجمل الملح إحدى ألعاب الطفولة وفيها يكون الأب جملا وفوق ظهره طفلان متشابكان كهودج.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق