كيف لروح طيبة شفيفة، تحب الموسيقى والغناء وتحب القراءة، أن تنسلخ فجأة من جلدها، من هويتها، ومن كل إنسانيتها لتصير روحا شريرة فى واقع بغيض؟!
وكيف لهذه الروح التى تورطت وانغمست فى الشر رغما عنها، أن تعود صافية، تستعيد براءتها وثقتها فى الجانب الطيب من الإنسان؟! هل يصنف الطفل الذى أجبر على القتال مذنبا أم غير مذنب؟! جلادا أم ضحية؟! وما السر وراء لجوء الجماعات المسلحة والميليشيات إلى تجنيد الأطفال؟ وما هو السبيل إلى التعافى وتضميد الجراح بعد انتهاء الصراعات المسلحة؟
..........
هذه النوعية من الأسئلة يجيب عليها إسماعيل بيه Ishmael Beah بمسئولية وحماس وقد عانى تجربة الانقلاب النفسى والاجتماعى فى سن مبكرة، ومع تلك النقلة المباغتة فى حياة الصبى، طمرت التقاليد التى تربى عليها تحت ركام تقاليد أخرى غريبة عليه، تمسخت معايير الأخلاق وصار من الصعب تمييز أى الأفعال خير وأيهما شر! لقد ودع الطفل مرهف الحس الذى وجد نفسه وهو فى الثالثة عشرة من عمره منخرطا فى صراع دموى لم يخطر على باله أبدا أن يكون طرفا فيه. لا يتذكر أعداد الذين قتلوا على يديه فى المعارك التى خاضها. يقول بإنهم يجندون الأطفال لأنه من السهل استمالتهم وخداعهم وتشكيلهم، يحقنون جرثومة العنف فى دمهم بالمخدرات، وبغسيل المخ المستمر. مع إدمانه انسحب من الواقع الذى عاشه من قبل إلى واقع جديد بمشاعر وأحاسيس مغايرة، بهوية جديدة على حساب تدمير هويته السابقة، وبنزعات جديدة تتمحور حول القتل والتدمير. إسماعيل بيه من مواليد 1980 من سيراليون. بعد إعادة تأهيله انتصرت طبيعته الخيرة، حدثت نقلة نوعية جديدة فى حياته، من العنف وارتكاب الفظائع، إلى محاولة فهم الإنسان الجميل بداخله الذى ينبذ العنف ويحب العيش فى سلام، ليصبح فى نهاية المطاف كاتبا وسفيرا للنوايا الحسنة التابعة لليونيسف كنصير للأطفال المتضررين من الصراعات المسلحة. فى كتابه طريق طويل قطعناه عام 2007 - A Long way gone يروى بنفسه تجربته كطفل يخوض معارك دموية بعد أن أجبر على حمل السلاح، وهو الكتاب الذى أبدى شهادته فيه بأسلوب سلس، سهل ومؤثر، يتحدث عن القضية فى مقابلات صحفية وتليفزيونية، فى زياراته لمخيمات اللاجئين، يبث الأمل فى الأطفال ضحايا الحروب، يمرر لهم يقينه بأنه بعد تضميد الجراح وبعد التعافى سوف يصير من السهل تخطى العقبات والتقدم للأمام. زار بلدانا إفريقية وزار الأردن عام 2017 وتقابل مع الشباب والأطفال المتضررين من المعارك فى سوريا، حضر ورش عمل ومؤتمرات تدعمها اليونيسف بغرض تدريب مجموعة من شباب اللاجئين كباحثين لحالات الشباب المهمشين، تردد على المراكز والورش التى تدعمها اليونيسف UNICEF من قبيل «مكانى» وهى أماكن ومراكز لتوفر الأمن للأطفال المتضررين من العنف فى الدول العربية والإفريقية، وفى هذه الأماكن يتلقون رعاية كاملة حتى يتمكنوا من أن يطلقوا الطاقات الكامنة فيهم، بجانب أن المنظمة تعمل على مقاومة تورطهم فى الانجذاب إلى الجماعات المسلحة وذلك عن طريق الدعم النفسى والاجتماعى، الارتقاء بالوعى، وبالتعليم. تقول اليونيسف عن المتضررين من الصراعات المسلحة بإنهم يحتاجون إلى مساعدة عقلية وبدنية لإعادة الإدماج التدريجى، ولم تكن اليونيسف وحدها المعنية بالأمر لكن مع شركاء من بينهم الاتحاد الإفريقى الذى أولى أهمية خاصة لمشكلة الأطفال والشباب المتضررين من النزاعات المسلحة بالقارة، وقع ميثاقا مع الأمم المتحدة 2013 لرعايتهم وإدراج حمايتهم فى كل أنشطته الأمنية.
من خلال لقاءاته مع هؤلاء الأطفال والشباب يؤكد إسماعيل أنهم سوف يتجاوزون محنة الاغتراب والتشرذم بما يتمتعون به من ذكاء وبما يستعيدونه من محبة، وبأنهم بالتأكيد لا يريدون أن يكونوا مثارا للشفقة، فقط أن تحترم حقوقهم، فى التعليم، والرعاية، وإعادة التأهيل، وهى الحقوق نفسها التى كان له الحظ فى نيلها بعد أن كان قد فقدها وهو فى الثالثة عشرة من عمره، وكان هذا عام 1991 فى بدايات الحرب الأهلية فى سيراليون التى استمرت 11عاما. فقد والديه وأخويه عندما قام المتمردون باقتحام بلدته موجبويمو فى منطقة بجنوب سيراليون. وسط أجواء العنف والقتل والدمار، انفصل عن عائلته وانقطعت الصلة بينه وبينهم، هام على وجهه فى البرية، ظل يتنقل من قرية إلى قرية هربا من الدمار، إلى أن وقع فى أيدى من جندوه ليخوض معارك دموية عنيفة لمدة ثلاثة أعوام.
ولنا أن نتخيل كيف يكون حال طفل مرهف الحس فقد أسرته وانتزع من بين أهله ليتورط فى صراع لا ناقة له فيه ولا جمل! ولقد لمست بنفسى خلال عملى فى القرى الإفريقية كيف أن للأطفال معزة خاصة، يتنقلون بحرية تامة بين أفراد العائلة الواحدة، والعائلة التى ينتقل إليها الطفل توليه الرعاية نفسها التى توليها لأبنائها، الذين بدورهم يتلقونها لو انتقلوا للعيش مع أقاربهم، فالعم بمثابة الأب، والخالة بمثابة الأم، وأبناء العم والخال أخوات. لا نسمع عن الابن الوحيد أو الابنة آخر العنقود. ومن الطبيعى والحال هكذا أن يكون إنجاب الأطفال من أساسيات الزواج فى القرية الإفريقية ومع هذا التضافر المجتمعى تذوب الفروقات فى القرية، فالكل جسد واحد، وروح واحدة، والحياة تسير فى تعاون وثيق بين الجميع، فالخير يعم. وكان إسماعيل قد بلغ السادسة عشرة من عمره عندما بدأت محاولة انتزاعه من قلب المعارك وإعادة تأهيله برعاية منظمة اليونيسف. لم يكن بالأمر السهل الانتقال إلى عالم غريب عليه، كيف يثق فيهم وهو لا يعرف هويتهم ولا نواياهم! يقول عن هذه التجربة بإنهم كانوا يحاولون بما لهم من سلطة دولية أن يأخذوه، وكان يقاومهم لشعور قد تنامى لديه بالانتماء لمجموعته، مع خشيته من خديعة أخرى مجهولة وغامضة، لا يبدو عليهم أنهم مقاتلون وهم مجردون تماما من الأسلحة! ليجد نفسه مرة أخرى فى نقلة نوعية وهو فى الطائرة إلى الولايات المتحدة، وفى مدينة نيويورك بدأت محاولات إعادة دمجه وإعادة تأهيله استضافته الممرضة التى تولت رعايته والتى كانت بارعة فى التعامل مع الطفل الحساس بداخله، منحته أهم ما افتقده، الثقة والحب، ساعدته على تجاوز فترة الحضانة وفى التأقلم مع عالمه الجديد الذى انتقل إليه. لاحظت شغفه بالموسيقى فاشترت له كاسيت وسماعات، وكانت طوال الوقت تحاول أن تمحو عنه عقدة الذنب التى ترسخت فى كيانه بأنه مجرم، حتى أقنعته بأنه لم يكن هو نفسه إلا ضحية وأن الخطأ ليس خطأه.
يقول عن فترة إعادة تأهيله مرت عليه بأصعب مما مر عليه فترة تجنيده وهو طفل، يعلل ذلك بأنه من السهل أن تمحو شخصية طفل، وأن تجرده بالتدريج من إنسانيته، ولن يكون من السهل إعادة ترميمه.
فى إحدى المقابلات وكان السؤال حول إذا ما كان قد جاء عليه وقت راجع فيه نفسه وفكر فيما يرتكبه من فظائع مثل قتل أمهات والأطفال على ظهورهن! قال بأنه لم يكن هناك سبيل للغوص داخل نفسه التى استلبت منه، كان فى حالة اغتراب تام انفصل فيها عن العالم بتأثير المخدرات التى كانوا يتعاطونها باستمرار، وبأن مشاعره استبدلت بمشاعر أخرى تتمشى مع الجنون والعنف الذى انغمس فيه، وعن افتقاده لأهله، رد بأن المجموعة التى يعمل معها صارت هى عائلته وقائده هو رب العائلة، وأن جل اهتمامه هو البقاء على قيد الحياة، وعن المهارات التى تعلمها، قال إنه لم يتعلم سوى كيف يطلق النار، وكيف يصوب على الهدف، وبأنه لو أخطأ التصويب سوف يقتل، وإذا لم يكن هو البادئ بإطلاق النار سوف تطلق النار عليه، ثم جاء رده على سؤال حول مدى قسوة الأطفال فى النزاعات المسلحة مقارنة بالكبار، قال إن الطفل بلا أهل وبلا شىء يفقده وبلا أخلاقيات يكون بلا شك قاسيا، ثم أضاف بمرارة الذكرى «للأسف أنا كنت واحدا منهم، أى أحلام أو طموحات ينظر إليها كنقاط ضعف، أى رغبات طفولية محل استهزاء وتعنيف، لم يكن هناك بد من التخلى عن كل هذا لأكون متفوقا فى قسوتى فى تعاملى مع العدو، لأكون مرموقا بين المجموعة التى أنتمى إليها، أتمتع بمزايا أكثر، خيمة لى وحدى وكم أكبر من الطعام»، وقال عن تآلفه مع أقرانه من نفس المجموعة العمرية إنهم كانوا مترابطين بأكثر من ترابطهم مع الكبار، لم يكن بينهم ضغائن لأنهم لا ينظرون إلا إلى أفضل ما فيهم من صفات، وهو الشيء الذى جعله يقاوم اليونيسف. أبدى عدم رضاه عن تصنيفهم كجيل ضائع الذى يتعارض مع مبادرة «لا لضياع جيل». وعن شعوره بالذنب قال إنه لو ظل مثقلا بهذا الشعور لكان قد فضل الموت كملاذ، ولكنه الآن وبفضل إعادة تأهيله يقبل على الحياة بشهية وانفتاح رغم أنه لم يتخلص تماما من الكوابيس، ومن ذكريات الماضى المؤلمة.
رابط دائم: