الزمان: مارس 2020، المكان: نيوزيلندا، حيث كان الطقس دافئا وجافا كعادته فى مثل هذا التوقيت من كل عام، كان الجميع يمارس حياته بشكل طبيعى ويتجهون إلى مقار أعمالهم، أما البرلمان التشريعى الذى عاد لتوه من عطلته الصيفية، فقد بدأ فى مباشرة القضايا المعتاد على مناقشتها. كان كل شىء عاديا جدا، لدرجة أن النيوزيلنديين قد يخطئون ما بين مارس 2020 ومارس 2019. باستثناء 4 مارس، حينما سجلت الدولة ثانى حالة إصابة بفيروس كورونا، الذى استطاع أن يعبر البلاد من خلال الجهاز التنفسى لامرأة عائدة من شمال إيطاليا، ثم توالت الحالات.
فى الأيام الأولى من شهر مارس، كان مستشارو الحكومة ورئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن يهدفون، مثل بقية العالم، إما إلى «حصانة القطيع» أو «تسطيح المنحنى»، ولكن عندما قدم كبير المستشارين العلميين للحكومة نصائح حول ما يعنيه هذا تحديدا من انهيار سريع للنظام الصحى، سرعان ما اتبعت أرديرن النهج الذى كان مستشاروها فى جامعتى أوتاجو وأوكلاند النيوزيلنديتين، ينادون به: الإغلاق. وفى 25 مارس، شقت رئيسة الوزراء طريقها إلى غرفة المناقشة فى البرلمان، وبخطى ثابتة، اعتلت المرأة الصغيرة ذات الـ 39 ربيعا آنذاك، المنصة، وبصوت مرتفع لا ينبىء بجسد صاحبته النحيل، أعلنت أرديرن تفعيل حالة الطوارئ الوطنية فى البلاد والانتقال إلى مستوى التأهب الرابع لمواجهة فيروس كورونا.
خطاب أرديرن ساعد فى خلق حالة تضامن وطنى غير مسبوق، والأهم من ذلك، أن الإغلاق المعلن عنه لم يعمل على تسطيح المنحنى فقط، بل حطمه بالتأكيد. ولكن فى عام 2022، وبينما يهدد متحور «أوميكرون» بإحداث أكبر قدر، إن لم يكن أكثر، من الضرر الذى يمكن أن يحدثه أى متغير سابق لفيروس كورونا، فمن المحتمل أن يكون مسار الإغلاق غير مطروح على الطاولة.
ورغم أن هذا التصور يبدو غير بديهى، لكن من الواضح أن 2022 سنة مختلفة، فمن غير المرجح مثلا أن يتحمل أصحاب الأعمال فى مدينة أوكلاند السياحية، جولة أخرى من «التجارة المقيدة» أو سلاسل إمداد أبطأ قليلا. أما بالنسبة للنشطاء المناهضين للتطعيم، فقد أصبح هؤلاء أكثر تنظيما من أى وقت مضى، وهذا قد يعطى انطباعا زائفا للمترددين فى أخذ اللقاح، بصحة ما يدافعون عنه. يأتى كل ذلك بينما تستمر بعض وسائل الإعلام فى تبنى وجهات نظر مناهضة لفكرة الإغلاق الكامل.
ومع احتمال استبعاد خيار الإغلاق، ربما تكون هناك حالة من الاستقطاب السياسى المتزايد فى البلاد بعد عامين من شبه الإجماع، أو هكذا رأت صحيفة «الجارديان» البريطانية فى تقرير لها، فعندما حدث الإغلاق الأول، كان النشطاء والمعلقون السياسيون يجادلون بأن الأمور لا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه، لكن رئيسة الوزراء نجحت فى تبنى برنامج ديمقراطى اجتماعى ناجح، حيث قدمت الدعم المناسب للأجور الذى بدوره ساعد آلاف الأشخاص على الاحتفاظ بوظائفهم، وتم تجميد زيادة الإيجارات، وجلبت الحكومة الملايين من الاستثمار فى البنية التحتية. باختصار، تمتعت البلاد بنمو استثنائى فى الناتج المحلى الإجمالى، ومستويات بطالة منخفضة تاريخيا، واستطاعت أن تجتاز عام الوباء وكأنه مثل أى عام آخر. ليس هذا فحسب، بل تمت إعادة فتح المدارس والشركات مرة أخرى، وكانت هناك حفلات موسيقية وتجمعات جماهيرية، وعاد الناس مرة أخرى إلى ممارسة حياتهم بشكل طبيعى وكانوا سعداء بما لديهم.
ورغم ذلك، فإن خلف قصة النجاح الظاهرة هذه كانت هناك فجوة بين الدخل والأسعار، التى كانت موجودة قبل انتشار الفيروس. فكانت أسعار المساكن لا تزال مرتفعة، متحدية السياسات التى تهدف إلى إبطاء نموها، إذ تبلغ قيمة سوق المنازل الآن أكثر بكثير من الناتج المحلى الإجمالى السنوى للبلاد، مع تراكم تلك الثروة بأغلبية ساحقة فى أيدى جيل طفرة المواليد (الجيل الذى ولد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية)، ناهيك عن ارتفاع مستوى التضخم بشكل غير معهود وهو ما أضعف القوة الشرائية للطبقات العاملة والمتوسطة.
كل هذه الأخبار السيئة ربما تقود البلاد لنقطة من الضوء وهى تستقبل عامها الجديد، إذ لم يعد بإمكان الحكومة تجاهل هذه الفجوة الماثلة، وربما تدرك رئيسة الوزراء، التى استبعدت فى أحد أخطائها التاريخية فرض ضريبة على أرباح رأس المال فى عام 2019، الآن ضرورة تنفيذ سياسات أخرى لكبح جماح ارتفاع أسعار المنازل ومحاربة التضخم والبطالة، ربما بمساعدة تشريع قانون اتفاقية الأجور العادلة، الذى فى حال تمريره فى أواخر عام 2022، سيكون له آثار واسعة النطاق، بما فى ذلك جعل الإسكان فى متناول العمال الذين يتقاضون أجورا منخفضة فى السابق، والمساعدة فى تعويض بعض أسوأ آثار التضخم المرتفع نسبيا. ومن ثم فمن منظور اجتماعى وسياسى، فإن عام 2022 لديه الكثير مما يستحق الثناء عليه، لكن من الناحية الصحية، فالأمر مخيف بالطبع، إذ من الصعب التكهن بما قد يجلبه تفشى «أوميكرون» للبلاد، فهل تكسب نيوزيلندا «الحرب الوبائية» مرة أخرى؟
رابط دائم: