رسم المفكر والكاتب والتنويرى المصرى جابر عصفور «1944 – 2021» عبر مؤلفاته وترجماته ونشاطه الثقافى والفكرى، صورة مغايرة للثقافة العربية التقليدية، فعبّر عن جيل عربى له موقعه ورؤيته للحضارة والثقافة العربيتين. كان مجتهدًا، ونشيطًا، ومثابرًا، واجه التحديات والتغيرات التى مرّ بها العالم العربى عمومًا ومصر خصوصًا، بوعى المثقف الرؤيوى.
.......................
نودّع عصفور وهو من الذين كانوا مع مجموعة من المثقفين العرب، المساهمين بتأسيس مجلة الحداثة اللبنانية قبل انطلاقتها رسميًّا فى العام 1994 فى بيروت، وقد بقى ضمن أعضاء الهيئة الاستشارية للمجلة منذ ذاك التاريخ.
فى محطّاته الخمس: «النشأة، فتنة القاهرة، ذكريات تلمذة، سكندريات، وذكريات ناصرية»، يتناول جابر عصفور فى سيرته «زمنا جميلا مضى» المرحلة الممتدة من خمسينيات القرن العشرين، ولادته فى المحلة الكبرى، وتعلمه فى مدارسها، حتى بداية السبعينيات، أى فى العام الذى توفى فيه جمال عبدالناصر.
المتابع لمضامين هذه السيرة، يجد أنها سيرة جيل عرفه الكاتب ونشأ وتعلم وعلّم وتربى سياسياً، متفاعلاً معه متأثراً ومؤثراً فى زمانه وبيئته، وفى حركته السياسية والثقافية والفنية التى سادت آنذاك.
لذا، يمكننا القول: إن جابر الذى تعرف على طه حسين، وعاش جزءًا من زمانه، هو من تأثر به، وكان ذلك بعد أن قرأ مذكراته «الأيام». بدءًا من تلك اللحظة، كما يقول: «قرر جابر أن يكون طه حسين جيله»، وجابر ذاته، ومن خلال أعماله الأدبية والفكرية المنشورة، قد أضاف إلى ما بدأ به طه حسين، إضافات نوعية، متأثراً بالمدارس التى عرفت فى تلك المرحلة.
إن كتاباته وعلى تنوعها – كان قد تناول فيها قضايا التنوير والحداثة - ليست سوى الدليل على ذلك. جابر عصفور الذى تأثر بطه حسين وقرأه وتأثر بليبراليته الثقافية، هو من كتب عن مراياه الفكرية المتنوعة، وهو فى ما بعد من مثل جيلاً من الليبراليين المثقفين. يذكر جابر ذلك، لينتقل متحدثاً عن المؤثرات السياسية لسياسات جمال عبدالناصر ليست به كفرد، بل فى الحركة الفكرية والسياسية والاجتماعية المصرية العربية.
لا يخفى جابر ذلك، بل يجاهر بما فعلته تلك السياسية فى كيان الشعب المصرى، خصوصًا حينما اتخذ ناصر قرارًا بأن يكون التعليم مجانيا ومفتوحا لكل المصريين. ومصر ما قبل عبدالناصر، كانت الأمية فيها تتجاوز الـ 85 فى المئة.
يعدّ جابر أن وعيه ووعى جيله الوطنى بدأ ينمو ويتطور بعد كل إنجاز اجتماعى ووطنى، لاسيما حينما اتخذ عبدالناصر قراره الشهير بتأميم قناة السويس، وبالأخص بعد الحرب التى خاضتها مصر العام 1956 ضد الإنجليز والفرنسيين والصهاينة، تلك الحرب التى رافقها توزيع الأرض على الفلاحين المعدمين والتى بلغ عدد المستفيدين منهم حوالى ثلث عدد سكان المجتمع المصرى.
أيضاً وجيله، بدأ يعيش ما تشهده مصر من تطور على المستويين الاجتماعى والاقتصادى حيث كانت مصر حسب سمير أمين وشارل بتلهايم، أكثر تطورًا من كوريا الجنوبية، وأقل تطورًا من اليابان، ناهيك عن تطور مصر عما كانت عليه تركيا وإيران، إن سيرة جابر عصفور، هى سيرة ذلك الجيل، فضلاً عن أنها سيرة إذاعة صوت العرب «أحمد سعيد، وجلال معوض»، إنها سيرة شكرى القوتلى والوحدة المصرية السورية.. إنها سيرة جمال عبدالناصر حبيب الملايين وسيرة «طه حسين» أحد أهم المساهمين فى الثقافة المصرية العربية، كذلك سيرة جيل من الفنانين من أمثال عبدالحليم حافظ، إذ يرى جابر عصفور أن سيرة هذا المطرب «معبود العشاق»، هى امتداد لسيرة العظماء من أجيال مصر والعرب.
يلامس جابر عصفور فى نصوصه التى نشر معظمها فى «مجلة العربى»، الحياة الثقافية والسياسية والفنية المصرية تحديداً. وإذ ينتقل إلى زمن سابق، هو ذاته لا يخفى إعجابه بالتراث المعمارى الذى عرفته مصر خلال حكم الخديو إسماعيل، حيث يتابع الإنجازات العمرانية للخديوى إسماعيل فى القاهرة، هذا الذى تأثر بفنون العمارة الفرنسية الإيطالية، وعمل على بناء العديد من المؤسسات على طراز ما هى عليه فى الغرب، آتياً بمهندسين غربيين لإنشاء العديد من المبانى التى غيرت معالم وجه القاهرة، تلك المبانى التى مازالت شاهدة فى تميزها فى خريطة الفن المعمارى لذاك العصر.
سيرة جابر عصفور، هى سيرة عائلية مدينية مدرسية - جامعية، هى سيرة أجيال من الأكاديميين والمدرّسين الذين عرفتهم مصر فى تلك المرحلة. وجابر يتحدث عن الكيفية التى انتقل فيها من المدرسة، مدرسة الأقباط، وكيفية تشكّل وعيه الدينى فى المدرسة، ومن ثم انتقاله إلى الجامعة التى تعلم فيها وعلم فيها وكل ذلك بفضل عبدالناصر.
إنها سيرة المحلة الكبرى والإسكندرية، والقاهرة، هذه المدن الذى رسم عصفور صورة لبيئاتها المتنوعة. انها سيرة المكتبات التى نهل منها ثقافاته الأولى، تلك المكتبات التى فتحت شهيته للمطالعة، لاسيما بائعى الكتب فى سوق الأريكية، وقبل ذلك بائع الكتب «كامل» الذى عرّفه بالأعمال الروائيّة ليوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس وفاروق خورشيد، وعبدالحميد جودة السحار، وأمين يوسف غراب، ويوسف إدريس، وعلى أحمد باكثير، ونجيب محفوظ، كذلك إعجاب جابر بأرنست همنجواى الذى تأثر بأعماله الروائيّة، ودفعه لقراءة الأعمال الروائية لقد رسم جابر ما كنّا عليه وتخيلناه، ففى هذه المذكرات الكثير من الحقائق والقليل من الأوهام، وإن كان فيها أيضاً ما يمكن الوقوف عنده، والمجادلة النقدية فى التعاطى معه.
سنكمل ما بدأه المفكر الكبير، الذى ساهم إلى جانب المثقفين والمفكرين العرب، فى إثراء المشهد الثقافى والأدبى لأكثر من نصف قرن. رحم الله الصديق ورفيق الدرب جابر عصفور الذى ترك بصمة فى تاريخ الأدب العربى لن تُنسى. سيفتقدك أحبتك وتلامذتك، وستبقى فى الذاكرة مدماكًا شامخًا من مداميك الثقافة العربية.
لروحك السلام.
رابط دائم: