-
المفكر الراحل جلال أمين هو من تقدم بمجموعة «حكايات أمينة» لجائزة «ساويرس» ولم أعلم إلا عندما فزت بها
-
الترجمة علمتنى «الإيجاز» وأن أكتب ما أريده بأقل عدد من الكلمات
-
صلاح جاهين قال لي الكتابة «شغل جواهرجية»
فى العام الأول لى فى الجامعة «1984» صادفتنى مجموعة قصصية بعنوان «البساط ليس أحمديا» لأديب كنت أقرأ اسمه لأول مرة.
أدهشتنى لقطاته الإنسانية واستوقفتنى تحديدا بطلة قصته التى حملت المجموعة عنوانها فهى امرأة بسيطة ترضع ابنها أمام مسجد فاعترض رجل بخشونة على ظهور ثديها الذى يلتقمه رضيعها، فأجابته بأمومة عفوية: ما تعكّرش الرضعة!
تقصّيت أخباره، فلم أصل لشىء وحين عملت بالصحافة بعد سنوات عديدة عرفت أنه يعمل فى نيويورك.وعاودنى السؤال: إذا كان موهوبا إلى هذا الحد، فأى عمل ذاك الذى فضَّلهُ على الأدب.
توالت الإجابات تدريجيا عبر سنوات. فوالده أحد لواءات الجيش المصرى النُزهاء، ووالدته أخت الشاعر الراحل الكبير «صلاح جاهين»، فشبّ بين الوطنية المتعففة، وثقافة الطبقة المتوسطة الآمنة، وتخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية «جامعة القاهرة 1979»، ثم التحق بقسم الترجمة الفورية فى مقر الأمم المتحدة بنيويورك «1982ــ2019»، فأمدّه عمله بحيوية قصوى، فالترجمة الفورية فى أكبر منظمة أممية فرصة للاحتكاك بمختلف ثقافات وأحداث العالم، بكل ما تعنيه من تنوع ومفاجآت وأخطاء وقلق.
فاكتسبت إبداعاته عمقا، وأتيحت لى قراءة بعضها تباعا، مثل «أم الشعور» 1987، و«وجوه نيويورك» 2003، وروايته الوحيدة «يا عزيز عينى» 2004.
وبثقة، تدرج فى عمله ليصبح رئيسا لقسم الترجمة الفورية فى الأمم المتحدة. ولاثنتى عشرة عاما «2007ــ2019» قاد بعدالة أكثر من مائة وثمانين مترجما بين أهم لغات الدنيا، وتحمل مسئولية أخطائهم جميعا بجسارة واحترافية يُحسد عليها.
وحين فوجئ الروائى حسام فخر بفوز مجموعته «حكايات أمينة» بجائزة ساويرس «2008»، عبّر عن سعادته بتقديم «حواديت الآخر».
ظللت متعلقا بأخباره إلى أن وجدت نفسى أجلس معه، وأحاوره حول فكرة مجموعته الأخيرة «بالصدفة والمواعيد»، التى استلهمها من حكايات حقيقية لأناس صادفهم على طريق الحياة، وهنا، يكمن التحدى لأى مبدع جاد فى تحويل الواقعى والبدهى إلى أدب موحٍ وحميم، يتمتع بمستوى فنى مغاير لآليات الواقع، لا ينشغل إلَّا بالمعانى الإنسانية فى أبهى تجلياتها.
.................
سنوات كثيرة مضت، ربما عقود، منذ قدّمت مجموعتك «البساط ليس أحمديا»، فهل حدثت نقلة ملحوظة فى المستوى الإبداعى والرؤى بتقديرك؟
أترك تقييم المستوى للقراء والنقاد، لكن إحساسى أنِّيِ تطوّرت على جميع المستويات، الثقافى والفنى، واتساع رؤيتى للدنيا بشكل كبير بالقراءات، والخبرات. إضافة إلى العمق.
الآن، أنا غير «حسام فخر» الذى كتب «البساط ليس أحمديا» وسنه ستة وعشرون عاما، وغير الشاب الذى كتب «أم الشعور» وهو فى الثمانية والعشرين. اختلفت.
مجموعتك الأخيرة «بالصدفة والمواعيد» جديدة من نوعها فى نظرى، بنيّتَها على حكايات حقيقية عشتها لناس صادفتهم على طريق الحياة، وتحويل القصص الواقعية إلى أدب مختلف وجميل، ألم تخش من واقعية القصص على مستواها الفنى، أم شغلتك المعانى أكثر؟
«بول أوستر» له جملة موحية وعميقة افتتحت بها المجموعة الجديدة تقول: «القصص تحدث لمن يعرف كيف يحكيها»، ربما تصلح تفسيرا لسبب كتابة هذه الشخصيات اللافتة بهذه الطريقة. أناس صادفتهم فى لحظات قد يكون فيها شيء أعمق من اللقاء أو التعامل مع شخص، ولإيمانى بوحدة بنى البشر، أرى أننا جميعا مهما تختلف خلفياتنا وأدياننا وجنسياتنا وثقافتنا، نحن لنفس الأشياء، ونخف ونحلم ونرتعد من فكرة الفُراق بالطريقة نفسها، ومع مشاهداتى فى أثناء أسفارى حول العالم، عرفت أن أغلب الناس كرماء ومحبون وقادرون على العطاء، ومن هنا جاءت فكرة هذه اللقاءات، ووجدت فى المجموعة ما يعبر عن الناس، ولا أدرى لأى مدى نجحت فى نقل هذا الإحساس.
وهل اكتفيت بمعطيات الواقع فى الحكايات فقط. أم أنك أعملت الخيال فيها؟
هذا العمل يختلط فيه الخيال بالواقع، وأظن أن الخط الفاصل بينهما لم يعد واضحا تمام الوضوح فى ذهنى. بصدفة جينية، وطبقية، وتعليمية، أنعمت علىّ الحياة بتجربة واسعة من الطفولة وإلى الآن، فرصة الحياة فى مدن مختلفة وثقافات متنوعة، أضفت على تجربتى غِنَى إنسانيا كبيرا. سأحكى لك قصة بسيطة حدثت لى فى الثانية عشرة فى موسكو، ففى اليوم الثانى لوصولنا كانت الشمس مشرقة وقررت وأخى اللعب فى فناء البيت، فأوقفنا والدى قبل الخروج وسألنا: لماذا لم ترتديا معطفيكما؟ قلنا: لأن الشمس ساطعة. فقال: فى هذا البلد إذا سطعت الشمس ازداد البرد، غطاء السحب يحتفظ بالدفء، وعدم وجودها سيجعل البرد أقسى جدا مما شاهدتماه أمس.
وهذه الحقيقة البسيطة التى أخبرنا بها الوالد تثبت أن كل ما نعرفه نسبى، فالشمس ليست بالضرورة مصدرا للدفء، ولمّا كَبِرت قرأت بيت شعر لـ «صلاح جاهين»: «الشمس تلج اصفر شعاعها صاروخ هوا». هذه النسبية فى كل شىء شكّلت رؤيتى للعالم كله منذ سن مبكرة جدا.
السماحة تغلب على تناولك للشخصيات، فهل التماس الأعذار للشخصيات والترفق بها، يرجع لطبيعتك، أم أن الموضوعية حتمية إبداعية؟
لا أحسن الحديث عن الناس إلا بالخير، الشخص الذى أتحدث عنه بقسوة هو شخصى الضعيف. حتى الشخصيات التى لم أحببها فى المجموعة، كتبتها بحنو والتمست لها الأعذار كما أشرت، عندما تناولت شخصية مدير سابق لى فى العمل، كان أقل كياسة ولياقة مما ينبغى، لكنه من الناحية المهنية كان صاحب فضل علىّ، من حقى توضيح أنه لم يكن مريحا فى تعاملاته، لكن، من واجبى الاعتراف بفضله. ولعلك تستغرب أن كثيرا من زملائى الروس خلال عملى بالأمم المتحدة، أجمعوا على أن تشيخوف لم يعبر عن روح روسيا، وأنه محبوب أكثر خارجها، وكذلك صدمنى أن «إيزابيل الليندى» مكروهة فى شيلى، ويصفونها بـ «عار قومى»، وأنها فى «بيت الأشباح» تُقلِّد «ماركيز» بشكل غير ناضج، وقدّمت للغرب صورة غير صحيحة لأمريكا اللاتينية يحب أن يراها، وليست أمريكا اللاتينية الحقيقية. التهمة التى سماها «إدوارد سعيد» الاستشراق.
وهل تتعلق رؤية الأديب لشخوصه، وتسامحه معهم، بمكوناته الإنسانية وظروف نشأته، وهل حدث معك هذا على أى نحو؟
ليست هناك قاعدة صارمة تفسر موقف الأديب من شخصياته وأفكاره، ثمة أمور كثيرة، إضافة إلى تكوينه الذى يسهم فى تشكيل رؤيته للدنيا، وأنا أكرمتنى الحياة بالكثير، جدتى وهى من أهم شخصيات حياتى، وأبى وأمى، وجميعهم كانوا يقولون إن كرم الدنيا فى أحد جوانبه اختبار، من يأخذه كأمر مُسلّم يفشل فى الاختبار، أما إذا أخذته على أنه وديعة أنت مؤتمن عليها، فواجبك أن توجهها صوب المحيطين بك ومن يصادفونك فى طريق حياتك، من هم أقل حظا منك، فقد وضعت قدمك على الطريق الصحيح. الكلمة الطيبة صدقة.
هل طبّقت هذا فى عملك كرئيس لقسم الترجمة الفورية بالأمم المتحدة؟
طوال اثنتى عشرة عاما كنت مسئولا عن مائة وثمانين موظفا من مختلف الجنسيات، فى كل تعاملاتى مع أى أحد منهم كان السؤال المسيطر على ذهنى: ماذا لو كنت مكانه؟ ما الطريقة المُرضية لى فى تعاملى مع رئيسى؟ فى اليوم الثانى لتولى رئاسة الترجمة الفورية فى الأمم المتحدة وقع خطأ مهول فى الترجمة، تناولته وكالات الأنباء وقالت إن السفير السورى اعترف أن بلده عندها برنامج نووى سرى فى بيان أمام الأمم المتحدة، وكان هذا بسبب الخطأ فى الترجمة. قامت الدنيا ولم تقعد، وانهالت الإيميلات تستفسر عن أسماء المترجمين وجنسياتهم وديانتهم. لم يكن لدى خبرة بالأعمال الإدارية، خرجت لأتمشى قليلا، والبحث عن بداية الخيط، وجاءت فكرة: لو كنت أنا صاحب الخطأ كيف كنت أريد لرئيسى أن يتصرف؟ ماذا كنت أتوقع منه أن يفعل؟ كان عليّ أن أبدأ تحقيقا لمعرفة ما إذا كان هذا الخطأ مقصودا أم لا، ولن أتخذ أى قرارات متعجلة تحت ضغط أزمة دبلوماسية كبرى فرددت على الإيميلات: «لا توجد هنا جنسيات وأديان أو أى شىء بخلاف موظفين دوليين أتحمل أنا المسئولية عنهم وأحاسبهم على أخطائهم وفق القواعد المطبقة، هذه غلطة من الترجمة الفورية، هذا الخطأ مسئوليتى». وانتهى الموضوع.
وكانت حفلة تقاعدى دليلا على ارتياح موظفى قسم الترجمة.
هل براعتك فى الترجمة، تساوى قدراتك الإبداعية فى الأدب؟
المهارة الأساسية التى اكتسبتها من الترجمة وانعكست على كتاباتى «الإيجاز». وكنت قد وصفت «مريد البرغوتى» ذات مرة بأنه «أستاذ إعجاز الإيجاز». هناك أشخاص بحاجة لفقرتين للتعبير عما يريدون. فى كتابه العظيم «ولدت هناك، ولدت هنا» عبّر مريد عن امتنانه لرجل أوصله من نقطة لنقطة فى رحلة شاقة محفوفة بالمخاطر فى قوله: «بعض الشكر يبخس الفضل»، أربع كلمات فقط. هذا ما أسعى إليه، أوسع معنى بأقل عدد ممكن من الكلمات. فى مهنتى إذا كان يمكنك أن تقول «جميعا»، وقلت «عن بكرة أبيهم» فهو خطأ، وربما خطيئة. الدقة والسرعة والاختصار أهم متطلبات مهنة الترجمة. ثمة جزء آخر غير واع، فأنا أفكر بلغتين، كل واحدة تأخذ من الأخرى وتعطيها، أحيانا أتساءل: من أين استحضرت هذه المفردة، فأجدها تنويعة من تعبير إنجليزى، والعكس بالعكس. لكن الإبداع عندى غير خاضع لأى قواعد على الإطلاق، يحصل وقتما يقرر هو، ويخرج بالشكل الذى قرره هو. وفى مجموعة «وجوه نيويورك» جاءت الفكرة يوم 11 سبتمبر 2003 الذكرى الثانية لانهيار برجى التجارة. فجأة حضر 17 وجها، هم من شكلوا المجموعة، كنت أعرف تقريبا كيف سيخرجون بالكتابة، وبالفعل تدفقوا بيسر كما توقعت، عندما وصلوا لنقطة اكتمال تشكلهم، وكانت مدة الكتابة من «11ــ28» سبتمبر، وفى هذه المدة كتبوا ثلاث مرات، كل مرة كنت أخلّصهم من الواغش، صلاح جاهين قال لى: «شُغل جواهرجية»، طلّع كل ما فى قلبك واتركه، ثم عُد إليه، وصنفّر ولمّع، وعدِّل واحذف. الفن هو فن الحذف.
كأنك انتقيت شخصيات مجموعتك الأخيرة بمستوى معين ومتفرد، فهل كان هذا عمديا، أم محض مصادفة فى أثناء الكتابة؟
كل إنسان تجربة متفردة، وهناك أشخاص أكثر تفردا بسبب الثقافة والسفر ومعرفة اللغات. هذه التجربة الفريدة نسبيا، وجدتها جديرة بالتسجيل، ليس فى صورة سير، بل لحظات أعمق مما تراه العين، مثل شخصية الرجل المجنون فى القطار بإسبانيا، فعندى مغناطيس إنسانى خاص يجذب المجانين، ودائما أجدهم يجلسون جوارى، عند التدقيق فى عمق القصة، تجدها عن الغُربة، لأن الكلام العاقل الوحيد الذى قاله، كان حين رأى قريته.
كأن قصصك مشروعات روايات، تنطوى على أبعاد خارج سياق الحكاية، وتبدو قابلة للتوسع، وتمنح التفاصيل مساحات أكبر كأنها رواية أو فيلم؟
لست من هواة التصنيف، ولا التعريف، فهو فى أحد جوانبه تضييق. فى كتاب الدكتورة «هُدَى الصَدَّة» عن الأدب المصرى الحديث، خصصت جزءا عن أعمالى وأعمال «سمية رمضان»، عنْوَنته بـ «أدب البدو الرحل». قالت فيه عن أعمالى، سواء «وجوه نيويورك»، أو «حكايات أمينة»، و«حواديت الآخر» إنها روايات متنكرة فى شكل مجموعات قصصية، لأن عالمه متكامل.
لماذا بتقديرك يتزايد خوف الأديب طوال الوقت، مهما يخض من تجارب، ويكتسب من دُربة، ويتمكن من المستوى الفنى واللغة؟
الخوف ظاهرة صحية، ولابد أن يكون الأديب عنده قدر من الهواجس والخوف، عدم الخوف يعنى عدم التعب والاستسهال. كلمة «الجمل المتعوب عليها» مهمة، بالنسبة لأى كاتب، وبالنسبة لى شخصيا. ويهمنى رأى المحيطين، أسمع، وإذا وجدت رأيا وجيها آخذه. والكنز الحقيقى هو الناس. قد تجد معلومة عند أحدهم، يعرفها وعايشها. والكاتب يستأنس عادة بآراء الأصدقاء، فإذا شعر أن رؤيته اكتملت وأصبحت أعلى من المحيطين سيكف عن الكتابة. كنت أقول للمترجمين زملائى، إذا دخلت الكابينة وأنت لا تشعر بالخوف وأنت أمام الميكرفون فعليك أن تعتزل. هناك مثال، ذات مرة عملت فى جلسة مهمة بمجلس الأمن، وظننت أننى أجدت عملى فخرجت متباهيا بنفسى وبثقتى الكاملة، وفى الجلسة المسائية كنت مع مجموعة من الخبراء، جاء أحدهم متأخرا، اعتذر للرئيس بما يترجم بالحرف: «العجلة نامت» كان يجب أن أترجمها بالفصحى، لم أستطع فى لحظتها، وارتبكت، فعدت لضرورة عدم الثقة الكاملة، وفى إحدى المرات، كنت مع ملالا الأفغانية وقالت بالإنجليزية «تحدث المعلم مع التلميذ»، والإنجليزية لا تحدد جنس المعلم أو التلميذ، والعربية فيها المذكر والمؤنث. فلم أعرف أيهما أختار. تخيل جملة بهذه البساطة تسبب لك ارتباكاً رغم تصورك أنك صاحب خبرة ومتمكن من أدوات مهنتك!
تذكرت لحظتها أن التواضع أهم ما تعلمته فى الحياة. فمهما تتعلم أنت جاهل. وإن ظننت أنك متمكن فأنت ضعيف.
هل عشت فى نيويورك كما تريد، أم قبلت بمعطيات الواقع هناك؟
حققت فى شغلى نجاحا منقطع النظير، ووصلت فى شغلى إلى أن أصبحت رئيسا لقسم الترجمة الفورية بالأمم المتحدة، وفى المقابل حياتى الأسرية كان هناك تضحيات، عندى ولد وبنت، لم يريا أقاربهما، وجدهما وجدتهما إلا مرة كل عام، ولمدة قصيرة، فلم يحدث ارتباط كبير بسبب الإقامة فى نيويورك. التكيّف مع أى مدينة يستوجب تقديم تنازلات، أكثر ما أحببته فى نيويورك أنها أخت القاهرة، أحبهما وأكرههما. نيويورك أكثر تنوعا من القاهرة، خاصة أنها مدخل أمريكا، أحياء بالكامل صينية وإيطالية روسية. تنوع لغوى عرقى وثقافى.
يقولون فى أمريكا إنك إذا بحثت عن شىء ستجده فى الولايات المتحدة، وإذا لم تجده فى الولايات ستجده فى نيويورك، وإذا لم تجده فى نيويورك فلا وجود له على الإطلاق. القاهرة مدينتى الأم، أخت نيويورك فى خفّة ظلها، وصعوبة الحياة، وقد عشت فى وسط البلد هناك سبعة وعشرين عاما. لأكون قريبا من مقر الأمم المتحدة. الزحام والضوضاء، نيويورك أعظم مدن العالم الثالث كما أطلق عليها. القاهرة على الرغم من كل هذا، فيها «حاجة» حلوة. بلا شك أشعر أحيانا بالغضب الشديد منها، وذات مرة كتبت مقالا نشرته جريدة البديل، فحواه أن قلبى لا يغفر للقاهرة أنها ليست نيويورك، ولا يسامح نيويورك لأنها ليست القاهرة.
تفاصيل الحياة اليومية فى المدينتين صعبة جدا بسبب الزحام والضوضاء، المنغصات الصغيرة مرهقة، هناك ليس لدى مجموعة دعم، لا أهل أو أقارب وأصدقاء، عندما ولد ابنى عام «92»، بقيت زوجتى يومين بليلة فى المستشفى، لأن مشكلة ما واجهتنا فى أوراق شركة التأمين الصحى، فلم يغط التكاليف، وكان المبلغ المطلوب لحظتها فلكيا ويتجاوز كل قدراتى. شعرت لحظتها بوحدة مخيفة، كنا هناك وحدنا تماما، على العكس من القاهرة، الأمر مختلف، فالكل حولك.
وهل ابنك يقرأ أعمالك أم أنه لا يعرف العربية؟
يهتم ابنى بالكمبيوتر، هو قارئ نهم للأدب بالإنجليزية، لكنه لا يقرأ العربية إلا بصعوبة وهذا من الأمور شديدة الإيلام، ألَّا يقرأ ابنك ما تكتبه، ولكن ما يخفف عنى قليلاً أن ابنتى تقرأ العربية أفضل من أخيها وتطلع من حين لآخر على بعض ما أكتبه.
وما حكاية فوز كتابك «حكايات أمينة» الفائز بجائزة ساويرس، وما علاقة والدتك بالموضوع، ولماذا تسلمت هى الجائزة؟
قرأ الدكتور «جلال أمين» الكتاب، وكانت زوجته على علاقة بوالدتى، فاتصل بها طالبا صورة بطاقتى، من دون أن يخبرها بالسبب، وقام بشراء خمس نسخ وقدمها لجائزة ساويرس. وفى أحد الأيام اتصلت بى والدتى وقالت إن هناك سيدة اتصلت وتريدك أن تتصل بها، فاتصلت بها فأخبرتنى أننى فزت بالجائزة، وتريد منى حضور الحفل الذى يعقد بعد يومين. وقتها كنت فى نيويورك وجواز سفرى منتهى الصلاحية!أنَبْتُ والدتى لتسلمها، وكتبت كلمة كانت حول سعادتى باكتشاف وجود مكان، وربما مكانة، لى فى بلدى الذى تركته منذ سنوات. وتدربت أمى على قراءة الكلمة قبل الحفل، ليس بهدف الإتقان وتفادى اللعثمة، بل لتخرج شحنات عواطفها وتتمكن من إلقائها بلا دموع أو تأثر مبالغ فيه.
فى عصر بطرس غالى، هل شعرت باهتمامه بك لأنك مصرى؟
على العكس، هل تعرف مقولة «يحكم بالظلم ليشتهر بين الناس بالعدل»، كانت هذه طريقته مع المصريين. ويوم تنصيبه أمينا عاما للأمم المتحدة ارتكبت أكبر غلطة ارتكبتها فى عملى بالترجمة الفورية فى الجلسة التى كان يتلو فيها القسم أمام رئيس الجمعية العامة، وكان من السعودية. كنت أترجم من العربية إلى الإنجليزية والعكس، وقررت ترجمة القسم عند قيام رئيس الجمعية العمومية ثم إغلاق الميكرفون عندما يقوله بطرس غالى، ليتردد بالعربية فقط. بعدها هنأه رئيس الجمعية العامة، قائلا نهنئكم على تولى منصبكم أمينا عاما للأمم المتحدة، وأنتم رجل الدولة البارز. وأخطأت قائلا: نهنئكم على تولى منصبكم أمينا عاما للولايات المتحدة. ضجت القاعة بالضحك. وعند محاولة تصويبه، رددت الخطأ نفسه فصفق الحضور، وربما كنت المترجم الفورى الوحيد فى تاريخ الأمم المتحدة الذى حظى بالتصفيق عن خطأ لا يغتفر.
رابط دائم: