شعرة صغيرة تفصل بين الكوميديا والابتذال، بين الظرف والاستظراف، بين الضحكة النابعة من الموقف الدرامى وإلقاء النكات. وقد نجح مسلسل «موضوع عائلى» الذى تم عرضه على منصة «شاهد» فى ألا يقطع هذه الشعرة، فقدم كوميديا لطيفة فرضتها طبيعة الشخصيات، برغم ما واجهته من أزمات، تماما كطبيعة الشخصية المصرية، التى لا ينقطع عنها الضحك أبدا، مهما تكن قسوة الظروف التى قد تمر بها، لذا فقد جاء المسلسل «بعائلته وموضوعها» معبرا عن أغلب بيوتنا، بل عن الحياة ذاتها، عامرا بالضحكات الصافية، الطافية على سطح نهر الدموع، النابعة من أعماقه، المتناثرة على ضفافه.
.................
وقد يبدو مفاجئا أن يختار صناع المسلسل القالب الكوميدى تحديدا لمناقشة موضوعه، الذى يتمثل فى رجل أرمل ماتت زوجته - حبيبته- منذ عشرين عاما، بعد أن فرَّق بينهما والدها رجل الأعمال المليونير عقب سنتين فقط من الزواج، ليفاجأ البطل بعد مرور السنين بوالد زوجته يخبره من فوق فراش الموت بأن له ابنة شابة لم تبلغ سن الرشد بعد، وأنه اختاره ليكون وصيا على ثروتها الضخمة، باعتباره أباها برغم كل شىء، وحتى لا يلتهم الثروة خالها مدمن القمار.
من أين يمكن أن تنبع الكوميديا فى موضوع كهذا؟!.. الإجابة تتمثل ببساطة فى المفارقات التى تواجه شخصية البطل، الرجل الأرمل «إبراهيم» الذى لم يتزوج بعد وفاة «ليلى» حبيبته، وانغمس بهدوء فى عمله، مغلقا بابه أمام الحياة، رافضا مواجهة أى شىء، هاربا من الأزمات، كارها أى مفاجآت، عائشا حياة بسيطة هادئة فى الشقة المقابلة لشقة شقيقته وأسرتها التقليدية للغاية، لكنه يجد نفسه بعد كل هذا مجبرا على خوض رحلة جديدة، مختلفة، عامرة بالأرقام والأزمات، المسئوليات والمواجهات، فكان طبيعيا أن تأتى الرحلة زاخرة بالمفارقات، التى غلبت عليها الكوميديا، وإن لم تغب عنها الدموع والأفكار والدلالات.
الفنان ماجد الكدوانى أحسن صنعا باختيار هذا العمل ليكون أول بطولة له. هو يعرف إمكاناته جيدا، فمن السهل عليه ببساطته وتلقائية ردود أفعاله أن يضحكك، وهو أيضا بإحساسه وعمق انغماسه فى الشخصيات قادرٌ أن يبكيك، فلم يكن هناك أنسب للبطولة الأولى من هذا الدور. كما أجاد المخرج أحمد الجندى استخراج أفضل ما فى أبطاله، ليقدمهم فى أثواب جديدة على أغلبهم، أبرزت إمكاناتهم. وأثبتت الفنانة الشابة رنا رئيس التى لعبت دور «سارة» الابنة التى ظهرت فى حياة والدها بعد سنين أنها ليست مجرد ممثلة صغيرة تعتمد على جمالها وخفة ظلها، إنما ذات موهبة حقيقية واعدة ببطولات أخرى، وهو ما ظهر بوضوح من خلال أدائها فى مشهد المكاشفة مع والدها، بالدموع لا الضحك هذه المرة.
الفنانة سماء إبراهيم، شقيقة البطل «زينب»، أظهرت إمكانات كوميدية كبيرة، لا سيما من خلال البكاء المستمر محبةً لابنة أخيها التى لا تعرف أنه أبوها، فتكاد الأخت ببكائها وتأثرها المبالغ فيه تكشف السر فى كل لحظة. والفنان الشاب طه دسوقي، ابن الأخت «حسن»، وضعه المسلسل على طريق نجم كوميدى قادم يمتلك قدرات تمثيلية واضحة، أما الفنان محمد رضوان، زوج الأخت «رمضان»، فقد ظهر فى ثوب جديد تماما يختلف عن أعماله السابقة فى أكثر من مسلسل، استغل صناعها ملامحه الجادة فى تقديمه فى شخصيات معينة، حتى جاء مسلسل «موضوع عائلى» ليوظف هذه الملامح فى أعلى درجات الكوميديا، خاصة عندما قرر هذا الزوج التقليدى البسيط الذى يكاد لا يغادر البيت أن يكشف أخيرا عن قدراته الإجرامية، ليقود العائلة فى تنفيذ حادث سرقة!.
وتكتمل الخلطة الجاذبة فى المسلسل بشخصيتين شريرتين، هما أولا الخال المقامر «خالد»، الذى لعب دوره الفنان محمد شاهين بإتقان معتاد، وثانيا شخصية «غازى» الرجل المجرم الذى يبتزه لسداد ديونه له، وقام بها الفنان السعودى، السورى الأصل، محمد القس، بأداء لفت الأنظار إليه لسلاسته، سواء فى مواقف الشر أو الكوميديا. ربما يمكن الإشارة إلى بعض الإطالة فى حلقة أو اثنتين من بين حلقات المسلسل العشر دون داع، كما فى حلقة التيه فى الصحراء خلال رحلة سياحية، لكن فريق الكتابة الذى ضم محمد عز الدين وأحمد الجندى وكريم يوسف وسامح جمال استطاع صنع كوميديا جميلة راقية، نابعة من المواقف، ودون أن يغيب عن السيناريو والحوار أيضا مشاهد مبكية أداها - بالطبع- الفنان ماجد الكدوانى ببساطة مدهشة، وتفاعلت موسيقى خالد الكمار مع كل أنواع المشاهد واللقطات، فعبرت برشاقة عن مواقف الضحك، كما عكست بعمق لحظات الدموع.
«سامحى، وإذا ما قدرتيش تسامحى أنسى».. نصيحة مخلصة يقولها البطل لابنته بدموعه، لا ليستجدى عطفها وبقاءها جواره، إنما كى تستطيع أن تعيش وتواصل الرحلة، فالحزن يهزمنا، ويهدمنا، إن تركنا أنفسنا له، والضحك وحده يعنى أننا لسنا أهلا لأى مسئولية أو مواجهة. وهكذا، فالضحك والدموع معا صنوان لا يفترقان، ليس علينا أن نختار بينهما، بل نحن مجبورون على التعايش معهما.. تلك هى الحياة.. ولهذا أيضا ربما اختار المخرج أن يضع فى ختام عمله «الكوميدى» إهداء «مؤثرا» على خلفية سوداء، قائلا: «إلى أكثر إنسان كنت أتمنى أن يشاهد هذا العمل.. أبى»، مع صورته طفلا مع والده، الفنان الكبير الراحل محمود الجندى.
وأخــيرا..
يبقى أن نقول.. إن شعرة صغيرة تفصل بين فكرتين مهمتين تناولهما مسلسل «موضوع عائلى»، أولا: أن تترك للحبيب الذى أسأت إليه حرية اتخاذ القرار بالرحيل، لأنك تستحق هذا العقاب، وثانيا: أن تبقى جواره وإن يكن رغما عنه، لأنه يستحق التمسك به. ويختار المسلسل أن ينحاز إلى الفكرة الثانية، الإجبار على البقاء، ليس قهرا للإرادة أو عدم اعتراف بالإساءة، إنما لأن الآخر «الحبيب» الذى يقرر الرحيل كثيرا ما يكون فى قرار نفسه منتظرا هذا الإجبار، راغبا فيه، لأنه يعنى - ببساطة- أننا نحبه.
رابط دائم: