رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

طه حسين.. «لم يخاصم التراث»

د. محمد عبدالمطلب

لم ألتق طه حسين, ولم يكن بيننا حديث فى يوم من الأيام, وإنما تابعته قارئا ومستمعا ومتذوقا, وما أرويه اليوم, أرويه بسنده الثقة, عن واحد من أهم تلاميذ طه حسين, هو أستاذنا الدكتور مصطفى ناصف رحمه الله – والمعروف أنه ألف كتابا عن طه حسين بعنوان: «طه حسين والتراث», لكنه لم يدون فيه شيئا مما أرويه عنه اليوم, ولا أدرى لماذا؟ ربما لأنه كان مشغولا بعلاقة عميد الأدب العربى بالتراث, وهى علاقة دار حولها كثير من اللغط الذى أراد إزالته وكشف وجه الحقيقة, واللافت أن ناصف لم يسجل هذه المرويات فى أى من مؤلفاته الكثيرة, على الرغم من أنه كان كثير الترديد لها فى مجالسه الخاصة, وفى لحظات بعينها, أسميها «لحظات الصفاء» التى كان يسمح فيها لذاكرته أن تنفتح على بعض مخزونها عن أهم شخصين أثرا فى مسيرته العلمية, هما: «الشيخ أمين الخولى والدكتور طه حسين», وما أن يذكر أحد اسم واحد منهما أمامه حتى ينطلق فى ترديد اسمه, وكأنه يناديه فى عالم الغيب: «أمين أمين أمين أمين طه طه طه طه».

«1»


لم يكن مصطفى ناصف من الرواد المنتظمين فى ندوة الدكتور عبدالقادر القط صباح كل جمعة فى أحد «الكازينوهات» بمصر الجديدة, لكنه كان يتردد عليها بين الحين والآخر, وفى حضوره يكون مستمعا أكثر منه متكلما, فإذا تكلم انساب لسانه ثقافة وفكرا وعلما تراثيا وحداثيا معا, أما فتح الذاكرة على مخزونها الشخصي, فله وقته وسياقه المناسب..

وكان من عادتى بعد العودة من مجلس الدكتور القط أن أدون ملخصا لكل مادار فيها من حوار أو نقاش حول قضية أدبية أوسياسية أو اجتماعية, وعندما رجعت إلى الأوراق التى سجلت فيها هذه الحوارات, توقفت عند صفحة مدونة بتاريخ: «5 / 9 / 1997», وفى هذا اليوم حضر الدكتور ناصف, وشارك فى بعض ما دار فى الجلسة من حوار, فاقتربت منه وجاذبته بعض الحديث الذى يحبه, ورددت على سمعه اسمى «أمين الخولى وطه حسين», فانطلق قائلا: أمين الخولى صاحب الفضل الأول علىّ, فهو الذى وجهنى لدراسة البلاغة العربية, وهو الذى غرس فيّ احترام التفكير العقلى, وغرس فىّ تقبل الاختلاف فى الرأى, وسوف تأتى المناسبة التى أروى فيها ما ذكره ناصف عن أستاذه أمين الخولي, لأنى اليوم معنى باستحضار بعض مروياته عن طه حسن فى هذه الجلسة التى تضمنت كثيرا من الأحاديث والحوارات بين الدكتور القط وبين حضور جلسته, لكننى سوف أكتفى بما رواه ناصف عن عميد الأدب العربي, وهى مرويات عن بعض المواقف الإنسانية والعلمية والسلوكية التى تميز بها هذا الرائد العظيم بين الأعلام الذين عاصروه فى النصف الأول من القرن العشرين.

وبعد أن رددت على سمع ناصف اسم طه, انتحى بى جانبا بعيدا بعض البعد عن بقية الجلوس, وكان ترديدى لاسم طه مقترنا بالحديث عن التراث والمعاصرة, فإذا بناصف يحتد فى كلامه لأن البعض كان يرى أن طه حسين أحد أعداء التراث, وهى رؤية غير صحيحة, فقد قرأ طه التراث بعين الإنصاف ومنطق العقل, فقبل منه ما احتفظ بشرط الصلاحية, ورفض منه ما فقد هذا الشرط؟.

وفى هذا السياق يروى ناصف أن أحد الأشخاص سأل طه حسين وكان ناصف حاضرا: ما الحدث أو الموقف الذى أسفت عليه أشد الأسف فى مسيرتك الحياتية والعلمية؟ فأجاب فى إيجاز بليغ: «يوم أن ألقيت عمامتى فى البحر», يقصد بذلك تلك المرحلة التى ابتعد فيها عن التراث, وكان ذلك نوعا من التمرد الذى كان سمة المرحلة الأولى فى مسيرة طه حسين الثقافية, يضيفٍ ناصف جملة من عنده تعبر عن تقديره للبلاغة العربية: انظر إلى هذه الكناية البليغة التى عبرت عن المعنى بأكثر من الحقيقة.

ثم يذكر ناصف أن حب طه للتراث بدأ مع بدايته التعليمية فى الأزهر,وصاحبه فى مسيرته الحياتية والثقافية وظهر ذلك جليا فى محاضرة له عن «التعليم الجامعى» وكان من بين الحاضرين «لطفى السيد » بوصفه مدير الجامعة آنذاك, وقد بدأ المحاضرة بتحيته, ثم ابتعد عن التعليم الجامعى فى الجامعة الأهلية «جامعة فؤاد» بعد ذلك, وخص بحديثه التعليم الجامعى فى الأزهر, كاشفا عن القيمة العلمية التى قدمها علماء الأزهر, وذاكرا مؤلفاتهم التى لا تقل فى قيمتها العلمية عما يدرس فى جامعات العالم.

«2»

ويقترب من هذا السياق ما رواه ناصف عن أستاذه وكيف تكالبت على الرجل كثير من الطعون فى عقيدته, بل رماه البعض بالكفر, بخاصة بعد تأليفه كتاب «الشعر الجاهلى», الذى أعاد نشره بعد ذلك تحت عنوان: «فى الأدب الجاهلى», ولم تلجم مؤلفاته الإسلامية أفواه هؤلاء المشككين, من هذه المؤلفات: «مرآة الإسلام» و«على هامش السيرة» و«الوعد الحق» و«الشيخان» و«الفتنة الكبرى».

وفى هذا السياق يروى ناصف أنه بعد عودة طه حسين من العمرة سأله أحد الصحفيين: عن الدعاء الذى توجه به إلى الله فى طوافه, وفى وقوفه أمام الكعبة؟ فقال طه ردا عليه: «عجبت لأناس يريدون أن يدخلوا بين العبد وربه».

وكثيرا ما كان يردد فى حضور ناصف تقصير علماء المسلمين فى التعريف بالإسلام والدعوة إليه, وإظهار صورة الإسلام الصحيحة أمام غير المسلمين, ثم يزيد قائلا: «لو أن علماء المسلمين والفقهاء عملوا بقوله تعالى «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين «النحل 125», يقول: «لوعملوا بهذه الآية الكريمة عن وعى وفهم عميق لحبّبوا كثيرا من القلوب فى الإسلام, ويذكر طه أنه قرأ معانى هذه الآية فى إحدى محاضراته فى «فلورنسه», وفى اليوم التالى جاءته إحدى السيدات اللاتى حضرن المحاضرة قائلة له: تحيتى إلى الإسلام الذى أحببته منذ الأمس».

وبعيدا عن مرويات ناصف يذكر «كامل الشناوى» الدعاء الذى كان طه حسين يردده دائما وأبدا, وهو دعاء حفظه عما يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم:

«اللهم لك الحمد, أنت نور السموات والأرض،

ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق,

ووعدك الحق والنار حق والمنون حق, والساعة حق,

اللهم لك أسلمت, وبك آمنت, وعليك توكلت, وإليك أنبت, وبك خاصمت, وإليك حاكمت, فاغفر ما قدمت وما أخرت, وما أعلنت وما أسررت, أنت إلهى لا إله إلا أنت».

«3»

ويروى ناصف عن طه حسين كثيرا من مواقفه الإنسانية على المستوى الخاص وعلى المستوى العام, فعندما كان مديرا للجامعة وقبلها عميدا لكلية الآداب, وفى إدارته وعمادته كان حريصا أشد الحرص على أن يكون لكل شخص المكانة التى يستحقها دون زيادة أو نقص, ومن ثم لم يكن يقبل من أى شخص أن يزيف مكانته العلمية أو الأدبية, فعندما كان مديرا للجامعة جاءه أحد أعضاء هيئة التدريس وقدم له طلبا فى أمر يخصه, ووقع على الطلب: «الأستاذ الدكتور فلان» ولم يكن صاحب الطلب أستاذا, بل أستاذا مساعدا, فعلق طه على الطلب تعليقا موجزا يغنى عن كل تفصيل: «إن هذا احتيال لا يليق بالعلماء», فأين هذا مما نحن عليه اليوم من فوضى الألقاب العلمية والأدبية والوظيفية والطبقية, فالألقاب مباحة للجميع, ينتهبونها دون وجه حق, وكأنها أشياء ملقاة فى الطريق يلتقطها من يشاء.

وهذا الذى كان من طه مع الأساتذة يوازيه ماكان له مع الطلبة, وحرصه على أن يحتفظ الطالب بكل حقوقه الإنسانية, فعندما كان عميدا لكلية الآداب طلب أحد الطلبة لقاءه لأمر يخصه, فسمح له بالدخول عليه, وإذا بالطالب يشرح للعميد حالته المعسرة, وفقره الشديد, فقاطعه العميد قائلا: اعرض مسألتك مباشرة, فقال الطالب: أريد مجانية التعليم لأنى لا أستطيع دفع مصاريف الجامعة, فقال طه: لك ما تريد, لكن لا تهن نفسك مرة أخرى عندما تطلب حاجة لك.

وهذه الرواية التى رواها ناصف تتوافق مع الرواية التى رواها الدكتور السيد أبو النجا - فى كتابه عن ذكرى طه حسين عندما زار العميد فى مكتبه وهو وزير للمعارف عام 1950, إذ يذكر أنه زار طه حسين عندما كان وزيرا للمعارف عام 1950, إذ دخل عليه سكرتيره يخبره بأن أحد كبار البشوات يريد مقابلته لأمر يتعلق بتلميذ يريد أن يلحقه بإحدى المدارس الثانوية, فقال طه: وما حاجة هذا الباشا إلى مدارس الوزارة؟ إن فى وسعه أن يرسله إلى أوربا على نفقته الخاصة, واعتذر عن عدم إتمام المقابلة.

وبعد قليل جاءه السكرتير مرة أخرى قائلا: إن أحد العساكر السود يشكو من أن إحدى المدارس الابتدائية رفضت قبول ابنه فيها, فقال له: هاته, وعرف طه من هذا العسكرى أن ابنه كبير فى السن, وأن مدرسة شبرا رفضته لهذا السبب, فقال للعسكري: لماذا لا تدخله مدرسة روض الفرج فهى تقبل كبار السن, فعلق العسكرى – فى سذاجة – «ودنك منين يا جحا» وأجيب أجرة الترماى منين؟ فاطرق طه قليلا, ثم هاتف ناظر مدرسة شبرا طالبا منه استثناء هذا الطالب من شرط السن لظروفه الخاصة.

وتصل مرويات ناصف قمة إنسانيتها عندما يتذكر زيارة والدة طه حسين لابنها وهو عميد لكلية الآداب, وكيف أنه خرج لاستقبال هذه السيدة الريفية البسيطة استقبال العظماء على باب الكلية, وأثناء سير الموكب إلى مكتب العميد اقترب أحد الموظفين من أم طه وشكا لها أن العميد حرمه من الترقية, كان هذا الموظف من بلدة العميد, وبعد أن جلس الجميع فى المكتب, قالت الأم: يا شيخ طه أوصيك بفلان خيرا, فقال طه لهذا الموظف: لقد لجأت لمن لا يرد له طلب, من الآن لم يعد لأحد أن يرفض لك طلبا. لقد آثرت أن أذيع مثل هذه الأحاديث الخاصة للدكتور مصطفى ناصف, لأنى لم أجدها مدونة فى أى من كتبه, و قد خشيت عليها من الضياع, ففيها كثير من العبر, وفيها كثير من الملامح الإنسانية الخلاقة التى نفتقدها فى حياتنا المعاصرة.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق