ما الذى يمكن أن يقال فى ذكرى مرور مائة وعشرة أعوام على ميلاد الأديب الكبير نجيب محفوظ أحد أنضر وجوه الأدب والثقافة فى مصر والعالم ؟!
وكيف يمكن الاحتفاء بتلك الذكرى بما يليق بجمال صاحبها وجلاله؟ الأمم الحية هى التى تحتفى بعظمائها، وتجدد ذكراهم، فإنها مدعوة للاحتفاء بأحد هؤلاء ممن كان حضوره طاغيا، وبفضله أصبح يُشار إلى الثقافة العربية بالبنان! وإذا كان الإنجليز يفخرون بشكسبير، والألمان يتيهون بجوته ، والفرنسيون يطاولون السماء بفولتير وموليير، والروس يلتمسون المجد بتشيخوف وتولستوى، فإننا – نحن المصريين – نفخر بنجيب محفوظ والعقاد وطه حسين وسواهم ممن كانت لهم قدم راسخة فى ميدان الأدب والثقافة .فى السطور التالية – وبمناسبة ذكرى ميلاد نجيب محفوظ التى حلت أمس «11 ديسمبر» من كل عام - نجلس فى حدائق إبداعات «حضرة المحترم»، نستطلع آراء نقاد ومبدعين حول الرجل ..القامة والقيمة.. ماذا تبقى منه؟ وكيف نقدمه إلى الجيل الجديد؟ احتفاء به، وتقديرا لمن يزيده الزمن تألقا، وحضورا يتحدى الغياب!
الناقد الكبير د. محمود الربيعى يقول إن شأن نجيب محفوظ كأديب عظيم؛ إن أخذه مجتمعه مأخذ الجد وأعطاه حقه وقدره بقى كله، وإن لم يفعل ذلك فمن الممكن أن يطويه النسيان، مشيرا إلى أن محفوظ نفسه تحسب لهذا حين قال : « لكن آفة حارتنا النسيان» .
د. محمود الربيعى
ويدعو الربيعى النقاد لتطوير منهج صالح لقراءة محفوظ يحلل قوالبه وفكره وأحلامه تحليلا يليق بأدبه الرفيع وألا يبقى عند حد التفاخر به دون أن يقدمه بحجمه الطبيعى للأجيال القادمة .
درر العقد الفريد
وعما تبقى من محفوظ الآن ، يرى أن جواب السؤال ليس عند محفوظ وإنما عندنا نحن؛ مشيرا إلى أن أمامنا إحدى ثلاث: نهتم به من وجهة صحيحة فيبقى، أو نهمله فيُنسى، أو نفعل به ما هو أشد من الإهمال فنتناوله تناولا سطحيا لا يليق به. ويقول إن من الصعب اختيار عمل أو عملين لتمثيل محفوظ، مؤكدا أنه على الرغم من أن أعماله مجتمعة هى صفقة رابحة جدا، فإنه سيغامر ــ على غير عادته ــ وينتخب ثلاث درر من «العقد الفريد»؛ «الثلاثية « (واسطة العقد)، و«اللص والكلاب» (الماسة المشعة)، «الحرافيش» ( الملحمة الخالدة). ويردف: ولولا ضغط المساحة لكان لى كلام طويل فى تقديم حيثيات اختيارى، لكن القارئ سيقبل عذرى بكل تأكيد! وعما إن كانت شهرة محفوظ حجبت غيره من المواهب، يرد صاحب «قراءة الرواية» قائلا: أسلم طبعا بأن شهرة محفوظ كانت طاغية، لكننى لا أسلم بأنها يمكن أن تكون حجبت المواهب الأخرى. ويؤكد أن الموهبة الرفيعة لا يمكن أن يحجبها شيء، والزهرة الفواحة تنبت فى الحجر وتشقه رغم أنفه. ويتساءل قائلا: من أية زاوية يمكن أن يحجب أديب مشهور كمحفوظ ظهور أديب آخر؟ أم أنه دفاع أصحاب أنصاف المواهب عن مواهبهم المتواضعة بطبيعتها؟
تجربة ثرية
الناقد الكبير د.أحمد درويش يرى أن ذكرى محفوظ ستظل متألقة وتزداد تـألقا وحيوية فى أدبه وفى الآداب الأخرى لأنه فى الواقع يعد ـ دون مراء ـ فى صدارة الصفوة من الذين سجلوا تجاربهم فى الأدب العربى فى القرن العشرين، مؤكدا أنه يعد أيضا واحدا ممن احتلوا مكانا عليّاً فى الآداب العالمية.
ويضيف أن تجربة محفوظ تجربة أدبية ثرية بكل المقاييس، طولا وعرضا وعمقا، مذكّرا بأنه واصل الكتابة على امتداد نحو سبعة عقود متتالية، من ثلاثينيات القرن الماضى حتى منتصف العقد الأول من هذا القرن . هذه العقود السبعة لم يتخللها إلاّ وقفات استراحة وتأمل وانطلاق، فلم يفتر عزمه، ولم يجف مداده طوال هذه الفترة، وزاد ذلك أن النتاج الذى تم لم يكن على وتيرة واحدة، بل كان نتاجا دائم التجديد، يكاد يطرح فى كل عقد فكرة جديدة. ويؤكد أن ذلك التجديد وحده كافٍ ليهدم فكرة أنه أقصى غيره عن الظهور أو أثرت شهرته على غيره. ويتابع قائلا: «لا شك أنه ليس من المصادفة أن تكون أولي جوائز نجيب محفوظ تكمن في جائزة مجمع اللغة العربية عام 1946، حيث منحته مؤسسة مجمع اللغة العربية أول جائزة كبرى له، وظل محافظا علي ذلك النمط بقية حياته» .
ويضيف أن ما يلفت النظر أن محفوظ صاحب المحافظة على الفصحى إلى أبعد مدي كان ابن بلد، وكان من أفضل من يجيدون العاميات ولفتاتها الدقيقة و«قفشاتها» الذكية، والنفاذ إلى روحها. ويتساءل درويش: من ذا الذى لا يستطيع أن يعرف قيمة أعماله الفرعونية الأولى التى نقلت التاريخ إلينا ـ للمرة الأولى دون أن تجبرنا على أن ننتقل نحن للتاريخ، وضمنت الخلود للعصر الفرعونى فى العصر الحديث كأنه ابن اليوم، وذلك هو ما يعطينا الأمل فى أن أعمال محفوظ ستخلد غدا وبعد غد عندما يستطيع قارئها أن يصل إلى روحها ويتبين مزاياها.
ومن يستطيع أن ينسى «الثلاثية» و«الحرافيش» و«أولاد حارتنا» والأسئلة الصعبة التى أثارتها واستطاعت أن تخوض غمارها بشجاعة وفن وذكاء.
ومن الذى يستطيع أن ينسى الروايات الكثيرة التى استطاع التعبير عن الرأى فى العصور التي عايشها بطريقة فنية عظيمة هزت مقاعد، ووصلت إلى ضمائر وأوصلت رسالة وظلت دائمة شفافة لا تهبط إلى مستوى المباشرة ولا تترك مقعدها التى احتلته فى صدارة الأدب التعبيرى فى عصرها وفى العصور التالية.
ويتابع صاحب « اختلاف النهار والليل»: محتاجون لنصطنع أسلوبا دقيقا ونحن نقرأ إبداعاته. فعندما نقرأ محفوظ ــ وهو ما يصنعه كثير من الصنّاع المعاصرين ــ تشدنا فتنة المنهج عن فتنة النص، فنقرأ محفوظ فى ضوء المناهج الحديثة، وتتشابك مع قراءتنا هذه المناهج وهى ضرورية ومفيدة، لكنها تخفى عن عين الناقد وعين القارئ معا فتنة النص الذى ينبغى أن تبدأ منها القراءة وتصعد إلى سطح المنهج مستعينة بالأدوات العلمية».
ويضيف اننا محتاجون أيضا إلي قراءة تدلنا علي جماليات النص «المحفوظي»، فى ذاتها، لا على جماليات المنهج الذى يعالجه، مشيدا بالدراسة العميقة التى أصدرها د. محمود الربيعى منذ نحو خمسين عاما، حول قراءة الرواية .
غربلة الزمن
برأى الناقد د.عبد الرحيم الكردى أستاذ النقد والأدب العربى والعميد الأسبق لكلية الآداب جامعة قناة السويس، ومقرر لجنة الدراسات الأدبية بالمجلس الأعلى للثقافة فإن بقاء أعمال نجيب محفوظ فى الوقت الحاضر وفى المستقبل ليس بقاءً تاريخيًا يدرس كما تدرس الآثار، بل بقاء حضور وتفاعل مع الحياة، لأن نجيب محفوظ- برأيه – صنع فى رواياته وقصصه نماذج إنسانية حية .
ويتساءل: من منا لا يقابل كل يوم فتاة مثل «حميدة» فى «زقاق المدق»؟ أو يلتقى رجلًا مثل أحمد عاكف فى خان الخليلي؟ أو أنيس زكى فى أحد الدواوين الحكومية؟
ويلفت إلى أن هناك عدة مشكلات تتعلق بقراءة أعمال نجيب محفوظ لدى الشباب فى الوقت الحاضر، من هذه المشكلات أن أذواق كثيرين من الشباب فى الأجيال الجديدة تختلف عن أذواق الأجيال التى كتب لها نجيب محفوظ، مشيرا إلى أن سرعة إيقاع الحياة جعلت هؤلاء الشباب لا يميلون إلى قراءة الأعمال الطويلة، مفضلين قراءة القصص القصيرة.
وعن المشكلة الثانية يقول إن قنوات الاتصال قد تطورت، فلم يعد الكتاب الورقى يلقى قبولًا لدى الشباب، نظرًا لانتشار وسائط الاتصال الحديثة، بل لم يعد التعبير باللغة هو الوسيلة الوحيدة، من ثم أصبح هناك جيلان مختلفان يعيشان معاً، جيل الورق وجيل الميديا. و عن حل المشكلة الأولى يقول الكردى إنه يسير، وقد اقترحه نجيب محفوظ نفسه، وهو أن يعهد إلى أدباء موهوبين بتبسيط روايات نجيب محفوظ، كى تتلاءم مع أذواق الشباب فى العصر الحاضر، ففى لقاء خاص أجرته صحيفة الوفد فى 19/8/1997م قال نجيب محفوظ: «تبسيط الأدب مشرع، ولا مانع من تقديمه للأجيال القادمة، ولكن بشرط الأمانة». وأما المشكلة الثانية فيمكن حلها أيضًا بطريقة مشابهة، وهى أن تحول روايات نجيب محفوظ وقصصه إلى روايات وقصص تفاعلية، توظف التقنيات الحديثة، أو تحول إلى قصص وروايات وأفلام كرتون للشباب بل ربما للأطفال.
حضوره أقوى الآن
فى السياق نفسه تصف الأديبة منصورة عز الدين محفوظ بأنه الرائد الأهم فى الرواية العربية، مشيرة إلى أن تأثيره لا يزال قائما حتى اليوم ، بل إن حضوره الآن أقوى فى رأيها ــ من حضوره فى الثمانينيات أو التسعينيات، لافتة إلى ظهور أجيال من الشباب تعرفوا على أدب محفوظ لأول مرة وتفاعلوا معه. وتضيف أن أهم ما يتركه أديب وراءه أن يظل حاضرا حتى فى غيابه، لأن الحضور فى الغياب هو الأبقى وهو الأدل على استمرار قيمة الكاتب. وتشير إلى أن هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن محفوظ ، محذرة من القراءة الاعتباطية لأعمال الرجل، داعية الى قراءة مدققة واعية. و ترى منصورة أن أهم أعمال محفوظ الباقية التى يصعب نسيانها ولو على المدى البعيد: الحرافيش، «ليالى ألف ليلة» التى طرح من خلالها أسئلته الخاصة، معتبرة أن أفضل أنواع التناص أن يتناص الكاتب مع عمل كبير ويقدم رؤيته الخاصة وأسئلته التى ينشغل بها هو.
منصورة عز الدين
وردا على ما يقال من أن حضور محفوظ كان طاغيا للدرجة التى حجبت غيره من المواهب، تقول: فى رأيى فإن وجود كاتب ما لا يحجب أى كاتب آخر، مستدلة أن جيل الستينيات، وهو الجيل الذى جاء بعد محفوظ وعايشه هو جيل حاضر ومؤثر وقدم مشروعات مختلفة تماما عن مشروعات محفوظ .
رابط دائم: