ـ1ـ
.. طرق موظف «التلغراف» باب شقتى،التى أستأجرها منذزواجى فى بيت «عطية القوصى»، فى «العمرانية الغربية»، التى زالت عنها صفة «قرية»، وألحقت بمدينة «الجيزة»، على هيئة تجمع بشرى، يضم خليطا من المهاجرين، والفلاحين سكانها الأوائل الذين مازالوا يزرعون أراضيهم بالفجل والجرجير، ويقيمون فى بيوت من طين وبوص وقش، ويربون الماعز والجاموس، على رؤوس الغيطان، التى توارت وراء بيوت المهاجرين من قرى «أسيوط» و«سوهاج» من بعض الأقباط، الذين هربوا من وطأة عصابات «الجماعات الإسلامية» المسلحة التى تسطو على محال طيور الزينة والحيوانات الأليفة، و«الكوافيرالحريمى» و«المصوغات الذهبية» والصيدليات والعيادات والبيوت التى يمتلكونها فى الصعيد، تحت شعار «أموالهم غنيمة» وجعلوا بيوتهم المبنية بالطوب الأحمر، ودكاكينهم فى شارع طويل متفرع من «شارع الثلاثينى» أعرق وأهم شارع فى العمرانية وشوارع أخرى حول «مستشفى الصدر» العتيق، وأذاعوا «الترانيم» بأصوات المرنمين الحزينة، وكتبوا لافتات من القماش، تهنىء المسلمين «الإخوة الأقباط يهنئون الإخوة المسلمين بعيد الأضحى المبارك» و«حلول شهررمضان» و«المولد النبوى الشريف» و وقعها كبارهم «المعلم شنودة جريس» و«فوزى هرمينا» و«ميخائيل عبدالسيد»..
..أعطانى الموظف المنتفخ البطن العظيم الرأس التلغراف وكان وجهه خاليامن التعبير..
ـ إحضر حالا.. أبوك على خطر..
وقلت لزوجتى بنبرة هادئة، حزينة:
ـ أنا مسافرالبلد دلوقتى.. التلغراف بيقول أبويا عيان..
ـ ربنا يشفيه.. الفلوس فى «الدولاب»..تروح وترجع بالسلامة..
ـ خلى بالك م العيال.. لوفيه حاجة كلمينى على تليفون «عمى حسين».. معاكى رقمه؟
ـ أيوه.. أنا كاتباه فى «الأجندة».. هتغيب كتير؟
ـ يومين تلاته، لحد ما نطمن على بويا..
ـ تاكل لقمة قبل ما تمشى؟
لأ.. عاوزالعيال، نسلم عليهم قبل ما نتوكل على الله..
«لم يكن أبى يمنحنى الأحضان التى يمنحها آباء المدن لعيالهم، كان يمنحنى «القرش» و«التعريفة»، ويوم العيد يمنحنى «ربع جنيه»، وفى موسم البلح، يعطينى بين الحين والآخر «أربع بلحات» أوخمسا «طايبة تنزعسل»، يخرجها من جيب جلبابه، قبل أن يدخل البيت عائدا من عمله فى «بوابة الرى»، المقامة على فم «ترعة نجع حمادى» التى تمتد بطول بلدنا، وبلاد أخرى مجاورة، ونسميها «البحر الكبير»، والأجداد والجدات يسمون النيل» البحر الكبير»، ويتكلمون عن الفيضان ويسمونه «الدميرة» ويقولون إن النيل، ماؤه يعالج المحمومين، فكانوا يملأون «البلاص»، من مائه ويسقون منه المحموم، ويعصرون «البصل والليمون» فى شرابه، فيبرأ، وأبى أحيل للتقاعد منذ خمس سنوات، وافترست الأمراض جسده على التوازى فهو يعانى ضيق شرايين القلب، والسكر، والروماتيزم، وهو يصلى فروضه جالسا، ويطول وقت بقائه فى «دورة المياه»، وعرفنا أن «البروستاتا» تضخمت عنده، وأمى ماتت منذ عامين، وهو طوال أربعين سنة، كان يخلع هدومه كلها، وينزل «الترعة»، بيده «الشوكة»، ليزيل «وردالنيل»، الذى يحول دون تدفق الماء أسفل البوابة الحديدية، التى تدور بتروس ضخمة، يفتحها أبى و«عم مهران» زميله، وتبقى مفتوحة ـ أسبوعين من كل شهر، ليروى الفلاحون أراضيهم فى أحواض «القلعة» و«التمانين» و«الكردوسى»، وكل الأحواض فى بلاد أخرى تجاور بلدنا، وكان أبى و«عم مهران» يفتحان البوابة، ويدفعان الجثث الآدمية السابحة فى الترعة، لتمضى إلى حال سبيلها، بعيدا عن «فم الترعة»، فلاتكون «نيابة» ولا «مركز» و«لاوجع راص»..
«قالت لى «عطيات «أختى الكبرى:
«كنا واقفين، وشفنا المره الميته، مكفية على وشها وعايمة، سبحان الله، لازم تبقى عايمة على وشها، عشان شرفها وعرضها يبقى مستور، ولما «البت هناء بت عطيفى «قالت» حلت الدفنه ياغريبة.. حلت الدفنة»، راحت المرة الميتة ـ محومة ودايره، ورست ع البر، وجات العسكر، وطلعوها، وجات «الأسعاف» وطلعت بيها ع «المشتشفى الكبيرة»، إكفينا شر الفضايح، قالوا دى مقتوله، عشان عابت، والتيارزاحها من عند «عرب بخواج» لحدبلدنا، استغفر الله العظيم»
ـ2ـ
.. قبلت «سلوى» و«عادل» و«محمود» عيالى، وجرت «سلوى» إلى غرفتها، وعادت حاملة «الهدوم الجديدة» التى اشترتها لها أمها بالأمس وكذلك فعل أخواها، وقلت لهم:
«أنا مسافر البلد.. عشان» جدو «عيان»، فسكتوا..، وهم لم يروا جدهم، وهو لم يرهم، لأن زيارة وحيدة قمت بها إلى البلد، وزوجتى «منى» أمهم، كانت معى، فى أيام مرض أمى، وهناك وقعت معركة بين زوجتى، و«هدى» زوجة «شعبان» أخى «الغفيرالنظامى» فى بلدنا «كوم الصعايدة، مركزجرجا، محافظة سوهاج»، ولايحبنى منذ أن كنا طفلين، وهو يكبرنى بثلاثة أعوام، وأهاننى وأهان زوجتى، وحلفت زوجتى على أن لاتدخل «كوم الصعايدة» مرة ثانية، ولم أسع لديها لتغيير قناعتها، وقال أبى «خلى بالك من مرتك..، وإحنا مسامحين».
.. وتذكرت وأنا أحتضن عيالى والتلغراف فى جيب قميصى أيام ذهابى مع أبى إلى فرع «شركة بيع المصنوعات المصرية» فى «جرجا»، نشترى «القماش المرود» ثم نذهب أنا وهو و«شعبان» و«مختار» إلى دكان «عزيز صليب» الخياط فى «شارع أحمد ماهر»، فنجلس على دكة مفروش عليها «كليم قماش»، ويضع «عزيز» الشاى فى «الكنكة»، ويضع «الكنكة» على «السبرتاية»، ونشرب الشاى،ثم يمسك «شريط القياس»، ويقيس أطوالنا وعروض أكتافنا ومساحات «داير» جلا بيبنا، ويسأل أبى عن «فتحة الكم» فيقول أبى « خمسة وعشرين»، وبعد وقت لا يزيد على الساعة يقول «عزيز»:
ـ يابومختار.. عدى بعد أسبوعين، تلقاهم جاهزين..
ويقول أبى:
ـ متشكرين يا بو «كرم».. وما تنساس «القيطان»، و«الصديرى» و«السراويل» بتوع الولاد، زى ما يطلعوا، اشترى ونحاسبك..
ونمشى فى «الشارع الجديد»، وندخل فرع «شركة باتا»، ويقدم الرجل الذى يرتدى القميص والبنطلون وشعره يلمع، لكل واحد منا «فردة حذاء»، وأبى يشجعنا:
ـ قيس يا «شعبان».. ألبس يا «مختار»، وانت يا «سامى»، أهم حاجة، رجليكم تكون مرتاحة، وصوابعك مفرودة، لومزنوقة، قول ونجيبوا غيرها..
.. ونطمئن ويطمئن أبى على أن «الجزم» مضبوطة مقاساتها، على مقاسات أقدامنا، ويبتسم الرجل الذى يرتدى القميص والبنطلون وشعره يلمع، ويعطى كل واحد منا صندوقا، فيه «الجزمة»، ونحمل الصناديق، ذات الروائح الغريبة، والفرحة تغمر وجوهنا ووجه أبى وقبل أن نصل إلى موقف «سيارات الأجرة»، يدعونا أبى لنشرب «عصيرقصب»، فى دكان يديره رجل ذوشوارب ضخمة، وعمامة بيضاء، وصديرى تحته فانلة لها أكمام و«الحريم» والعيال «حلقة حاوى» داخل الدكان وخارجه، ونشرب العصير، ونمسح «الريم» الذى غطى شفاهنا، ويقول أبى:
ـ نروحوا نشتروا «الملوحة والبصل وعيش الطابونة»، أمكم و«عطيات» نفسهم فيها..
ويشترى أبى «الملوحة» من «فاروق خلة»، الذى محله مشهور فى «شارع الكنيسة»، ونعود إلى «الموقف»، ونركب «عربية توفيق»، و«النفر» أجرته «خمسة قروش»، و«توفيق» يحشر فيها عشرة «بنى آدمين»، وزجاج العربية الأمامى مكتوب عليه باللون الأبيض «5 راكب»!
وعلى «طريق العزبة» الذى يربط بين «كوم الصعايدة» و«جرجا» قالت امرأة لأبى:
ـ ربنا يخلى، ربنا يتاقى، وتشوفهم رجالة، وتاكل من كدهم..
ـ رأيت على طريق العزبة، الحريم، مرتديات السواد، يلطمن خدودهن، وإحداهن تنقرعلى «الرق»، والطين لطخ ملابسهن، وكن حافيات، فاختلط الأمر فى عقلى، «الرق» يعنى الفرح، و«الطين» و«اللطم» و«الندب» والصراخ يعنى الموت والجنازة، وسألت أبى:
ـ هوه ده فرح، ولاجنازة؟
ـ بعيد عنك ياولدى، دفنوا راجل مقتول وراجعين، والمقتول لازم يندبوا عليه، واللى ماسكه «الرق» دى اسمها «الشلاية»، تشلى ع الميت وتقول، والحريم تقول وراها، وتفضل ع الحال ده، اربعين يوم، وده كله حرام، وكفر والعياذ بالله»
ـ3ـ
على رصيف «الصعيد»، فى محطة «باب الحديد»، جلست على المقعد الرخامى، بعد أن اشتريت الصحف، واشتريت «علبة سجاير بلمونت»، وبدأت بقراءة «الأهرام»، ثم جاء القطارمن المخزن ، قطار «أسبانى» فاخر، متجه إلى «الأقصر»، وجلست فى المقعد المخصص لى فى التذكرة «مقعد 45 ـ عربة 5 بجوار النافذة»، وجاءت سيدة بيضاء، ذات حجاب صغير، مكحولة العينين، تحمل «شنطة صغيرة»، وتجرأخرى من «ذوات العجل»، وطلبت من الرجل الجالس بجوارى أن يجلس فى المقعد المقابل، واستراحت فى جلستها وقالت:
ـ الجو صعب، ربنا يلطف بعباده..
وأنا أقرأ «الأهرام»، تشغلنى مقالة «يوسف إدريس»، والسيدة قالت لى:
ـ تسمح تدينى «الجورنال» أبص فيه شويه؟
ـ اتفضلى يافندم.. تحت أمر حضرتك..
ـ ميرسى جدا..
وقالت:
ـ حضرتك مش فاكرنى؟.. حضرتك الأستاذ «سامى العرينى»؟
ـ أيوه يافندم «سامى على العرينى»..
ـ إنت كنت فى آداب سوهاج؟
ـ أيوه حضرتك..
ـ أنا «سهام صبحى»، صاحبة «نادية مبروك»..
ـ مين «نادية مبروك»؟
ـ نادية.. حبيبة القلب.. «حبيبتى قاسية مثل ليل الشتاء، وحبيبتى نهر يفيض، فيغمرالقلب الحنان»!
ـ مش فاهم قصد حضرتك..
ـ دى قصيدتك يا استاذ «سامى».. أنا حفظتها من «نادية»، إنت إديتها للست «الدادة»، بتاعة «مبنى ص»، فى المدينة الجامعية، والدادة وصلتها لنادية، اللى هيه زميلتى فى نفس «الأوضة»، وأنا عجبتنى القصيدة، وكل قصايدك، كنت أقراها وأحفظ منها أجزاء، و«نادية» كانت تقرا القصايد دى وتضحك، ولاعمرها عرفت الحب، وإنت ياعينى هارى نفسك شعر!
ـ عموما، فرصة سعيدة يامدام «سهام»..
ـ أنا أسعد طبعا..
ـ حضرتك مسافرة فين ف الصعيد؟
ـ المنيا، وانت طبعا رايح «سوهاج»..
ـ والدى عيان شويه.
ـ ربنا يطمنك عليه، وأنا أتمنى أشوفك تانى، تيجى تزورنا إنت والمدام، أنا ساكنه فى «كوبرى القبة»، وتتعرف على جوزى، الدكتور «أيمن الصياد» أستاذ جراحة فى طب «القصرالعينى»، وده الكارت بتاعى فيه أرقام تليفونات البيت والشغل، أنا مديرة حسابات فى شركة بترول، شركة «شل»، يمكن سمعت عنها، شركة عالمية، وليها فرع فى «مصرالجديدة»، تشرفنى فى أى وقت.
«كان أبى يقول لى» الراجل اللى تكسره «وليه» يبقى مش راجل، و«حب اللى تحبك، وما تحبش اللى تحبها»، اللى تحبك تجرى وراك، واللى تحبها تجريك وراها، و«نادية مبروك»، منحتها من عمرى عامين، وكتبت فيها عشرات القصائد، وتزوجت «ضابط شرطة»، فى مكافحة «الإرهاب»، وسافرت معه إلى «أوغندا»،حيث يعمل فى تأمين سفارة «مصر» هناك، وتزوجت «منى» أم أولادى، ونسيت حبى».
ـ4ـ
ـ البقاء لله، شد حيلك..
ـ إمتى حصل؟
ـ إمبارح، بعد العشا، وماقدرناش نأخرالدفنه، «الأمانة» ما تتحملش الجوالحربتاعنا، وإنت راجل عارف كلام ربنا..، والبركة فيكم، «شعبان» و«مختار» قاموا بالواجب، والعيلة كلها كانت واقفة، والجنازة طلعت بعدما صلينا «الجمعة»، البلدكلها مشت وراه، ربنا بيحبه، مات يوم «جمعة»، عليه رحمة الله..
ـ عليه رحمة الله..، الفاتحة.
رابط دائم: