بينما كانت تقابل فى الماضى باستهجان شديد وتفشل فى جمع الجمهور حولها، أصبحت «الكوميديا السوداء» هى السمة الغالبة على الدراما التليفزيونية منذ مطلع القرن الحادى والعشرين، فقلما تجد عملا تليفزيونيا الآن رسالته الضحك فقط، بل تكون دائما ممزوجة بمشاعر مختلفة ما بين البهجة والحزن والندم والتأمل، لتثير فى النهاية بعض الأسئلة الوجودية عن الحياة، أو توجه نقدا لاذعا للمجتمع أو فئة بعينها.
فالحدود الفاصلة بين الكوميديا والدراما خفتت للغاية خلال العقدين الماضيين، وهو ما انعكس أيضا على خرائط البث التليفزيونية عالميا، فلم تعد ساعات المشاهدة الليلية مقصورة فقط على الأعمال الدرامية محكمة الحبكة، بل باتت تحتل الكثير من مسلسلات الكوميديا السوداء ساعات البث الليلى وسط الإقبال الجماهيرى الضخم على تلك النوعية من المسلسلات أخيرا، بينما اختفت فى المقابل «موضة الست كوم» التى تعتمد على أصوات الضحك والتصفيق المسجلة للعرض فى الخلفية.
ولعل الأقرب إلى الأذهان الآن مسلسل «الخلافة»، الذى يوجه نقدا لاذعا للإمبراطويات الضخمة التى تسيطر على الإعلام فى الولايات المتحدة والعالم، كذلك مسلسل «فيب»، الذى كان يعرض على شاشات التليفزيون حتى وقت قريب، وانتهى بإدانة كل أشكال الممارسات السياسية المتبعة فى أمريكا.
والأسباب وراء ذلك كثيرة ، من بينها اختلاف شكل وطبيعة الإنتاج والبث التليفزيونى بشكل رئيسى، فحتى نهاية التسعينيات، كانت المحطات التليفزيونية حول العالم خاضعة بشكل رئيسى لسيطرة المعلنين، الذين كانوا يحرصون على جمع أكبر عدد ممكن من المشاهدين حول العمل التليفزيونى لتحقيق أقصى انتشار ممكن لإعلاناتهم، ومن ثم كانت الكوميديا تقدم للجمهور «نقية» خالصة قادرة على إسعاد الجميع وإدخال البهجة عليهم. وفى حالات نادرة كانت تعمد بعض الأعمال لتقديم إحساس طفيف من «عدم الراحة» للمشاهد لتوصيل رسالة أكثر جدية.
أما مع بداية الألفية الثالثة وانتشار التليفزيون مدفوع الأجر، تبدل الحال، لتصبح الجودة والابتكارية هى سيدة الموقف، خاصة أن بعضا من هذه المحطات بدأ ينتج لنفسه، ومن ثم زادت جرعة «عدم الراحة» للمشاهد، كما تطور شكل التصوير وتقنياته لتقديم انطباعات بعينها للمشاهد على نحو أكثر احترافية، ولدعم توصيل الرسالة المرجوة للجمهور .
الكوارث الكبرى التى شهدها العالم منذ مطلع القرن الحالى بدءا من هجمات سبتمبر بالولايات المتحدة وان انتشار حوادث القتل الجماعية، وحتى الأزمة المالية العالمية وجائحة كورونا، كلها ساهمت أيضا فى تعقيد الكوميديا أكثر لتصبح أقرب للواقعية، مع تأكيد فكرة أن الحال قد يتبدل دوما إلى الأكثر سوءا، وبدون سابق إنذار.
رابط دائم: