«فيك عشرة كوتشينة فى البلكونه»! كلمات غناها عبدالوهاب فى شرخ شبابه سنة 1927، أغنيه خفيفة لكنها كانت خارج المألوف.. وفى عام 1954 غنى «الكأس بين ايديا»! ومرت هذه الأغانى بسلام، حيث كنا ننظر إلى القيمة الفنية فى بعضها، وإلى خفة ظلها فى البعض الآخر، ولم يفكر مسئولون منذ نحو قرن مضى أن يوقفوا صاحبها عن الغناء بل كان النصح وتنمية الثقافة الفنية، ولهذا استمتعت أجيال قادمة بتحف فنية لا تعد ولا تحصى الكرنك، الجندول، كليوباترا، و 8 كاستات كاملة من الأغانى الوطنية.. وفى سنة 1928غنت أم كلثوم فى أول صباها....«الخلاعة والدلاعة مذهبى..من زمان قلبى يريدها والنبى»، وبعدها غنى السنباطى قصيدته فائقة الجمال - فجر- بدأها بـ «أيها الساقى بما شئت اسقنا ثم اسقنا»! ولم توقف لجنة أو فرد رياض ولا أم كلثوم، وإلا ما كنا استمعنا إلى الدرر الغالية «نهج البردة»..«سلوا قلبى» .. «إلى عرفات الله»...«الأطلال» «القلب يعشق» وختمتها بروائع أغانيها مع عبدالوهاب، وكان لكثير من المطربين «أغان» قد لا يستسيغها البعض، فهى فى نظرهم خروج عن الذوق العام، فقد غنى الموسيقار فريد الأطرش- «يا ما جوا الدولاب مظاليم» و «يا عوازل فلفلوا»، وغنى عبدالعزيز محمود «يا شبشب الهنا ياريتنى كنت انا»! وتقبلها الكثيرون وامتعض آخرون ولكن لم يفكر أحد ولا هيئة بإيقافهم.. فقد كنا أوسع صدرا وأكثر تقبلا للاختلاف. وقديما لحن موسيقار الأجيال مونولوجا جميلا لشكوكو (يا واد يا حدقة.. اعيش معاك واكلها بدقة).. ولحن بليغ حمدى ألحانا لمغنى هوجم بضراوة فى وقته، وأثبتت الأيام أصالته وقدرات صوته، إنه الفنان أحمد عدوية.. كان هذا الجيل من العمالقة يحتضن، ينصح، يوجه.
أقول ذلك بعد ما قرأت قرارا لهيئة منتخبة من الفنانين - أن نقابتهم- تأمر بإيقاف - بعض من شباب المغنين بحجة الإخلال بالذوق العام.. فمن يحدد الذوق العام؟.. فى أوروبا مثلا هناك من يفضل «الأوبرا» وآخر «الأوبريت» وآخرون تتوزع أذواقهم بين «البوب» و«الراب» وغيرهما وكذا فى مصر ذوق الصبية غير الشباب، وهذان يختلفان عن البالغين الكبار، والحضر غير الأرياف، بل لعل لكل محافظة أغانيها وتذوقاتها، الإسكندرية ـ بورسعيد ـ أسوان ـ سيناء ..، فهل من المنطق أن يحدد البعض منا الذوق العام؟.. أليس لهم جمهور يعد بالآلاف يسعدونه بأغان خفيفة قصيرة مرحة فى رحلاتهم وأفراحهم؟.. أرى أنه إذا كانت هناك بعض ألفاظ قد تخدش الحياء.. فالنصح أجدى من العقاب، أما حجة الحفاظ على الآداب العامة، فالخطر عليها ليس من كلمة هنا أو هناك، بل فى السموم التى يبثها المحمول فى عقل شبابنا.. حماهم الله.
د. خليل مصطفى الديوانى
رابط دائم: