رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

‫المهاجرون فى بيلاروس .. فصل جديد فى مسلسل المواجهة مع الغرب‬

د. سامى عمارة‬
امرأة تحمل طفلها باحد مراكز المهاجرين في بيلاروس

يوما بعد يوم تتصاعد أزمة اللاجئين العالقين على الحدود البيلاروسية البولندية، على وقع تبادل الاتهامات بين بيلاروس المدعومة بروسيا من جانب، وبولندا التى تقف ممثلة لمصالح وسياسات الاتحاد الأوروبى والناتو من ورائها من جانب آخر. وفيما يتبادل الجانبان الاتهامات للأسبوع الثانى على التوالى، يتخذ النزاع أبعادا تكاد تفضى بالجانبين إلى شفا المواجهة المسلحة، وإن تشير الاتصالات المتلاحقة بين الأطراف المعنية الى احتمالات انفراجة قد تعيد الأمور إلى بعض نصابها الطبيعي.

البداية تعود إلى مطلع العام الجارى مع تدفق المهاجرين من مناطق الشرق الأوسط تحت ستار “التأشيرات السياحية” على حدود بيلاروس مع كل من لاتفيا وليتوانيا وبولندا، بهدف التسلل إلى ألمانيا وبلدان الاتحاد الأوروبى سعيا وراء الفوز بحق الهجرة. وما أن جنحت الأوضاع على الحدود البيلاروسية الليتوانية الى بعض الهدوء النسبي، حتى راحت حدة النزاع تتصاعد يوما بعد يوم على المناطق الحدودية بين بيلاروس وبولندا. وفيما وجهت بلدان الاتحاد الأوروبى انتقاداتها إلى مينسك والرئيس ألكسندر لوكاشينكو بتعمد تصعيد الأزمة، ألقى رئيس بيلاروس بتبعات المشكلة وأسبابها على كاهل الدول الغربية المسئولة عن انفجار الأوضاع فى الشرق الأوسط، مناشدا الصديقة الكبرى روسيا الدعم العسكرى فى مواجهة احتمالات انفجار الموقف على الجبهة الغربية‪.‬

وقد شهدت الأسابيع القليلة الماضية اقتحام الآلاف من المهاجرين الحواجز الحدودية والأسلاك الشائكة التى سارعت السلطات البولندية إلى نشرها على الحدود مع بيلاروس. وتحولت المنطقة إلى ساحة حرب استخدمت فيها قوات الأمن البولندية كل أشكال القوة من قنابل الصوت والقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه المخلوطة بالمبيدات والمواد الكيماوية. ولجأ المهاجرون إلى إلقاء الحجارة والعصى الخشبية وكل ما كان يقع تحت أياديهم فى مقاومتهم لهذه القوات، بينما كان الكثيرون من ذويهم يتضورون ألما من جراء البرد والجوع فى المخيمات الحدودية التى أقيمت على عجل على مقربة من المكان. ورغم كل ما بذلته سلطات بيلاروس من مجهودات، وما قدمته من معونات وأغذية وبطاطين، فإن الأمر راح يتفاقم يوما بعد يوم، الأمر الذى استدعى وساطة الرئيس فلاديمير بوتين و”القائمة بأعمال” المستشار الألمانى أنجيلا ميركل. وفى هذا الصدد نجح بوتين فى فرض الرئيس البيلاروسى ألكسندر لوكاشينكو طرفا مباشرا ينبغى التعامل معه، بعيدا عن كل القيود التى أقرها الاتحاد الأوروبى ضده، ومنها عدم الاعتراف به رئيسا لبيلاروس منذ أغسطس من العام الماضي. واضطرت أنجيلا ميركل إلى الاتصال بلوكاشينكو مرتين لبحث تطورات الموقف على الحدود البولندية والبيلاروسية، ورغم محاولاتها نفى أن ما دار ويدور بينهما من اتصالات ومباحثات، هو اعتراف من جانبها بالأمر الواقع، وتأكيدها أن هذه الاتصالات لا يمكن اعتبارها “مباحثات”، يظل لوكاشينكو ممسكا بزمام الموقف، بعد أن تحول من موقف الدفاع ضد الاتهامات التى تقول بمسئولية تدبير هذه الاضطرابات وحشد اللاجئين فى المناطق الحدودية المتاخمة فى البداية لحدود لاتفيا، ثم حدود بولندا، إلى الهجوم ضد ما وصفه بانتهاك بولندا وبلدان الاتحاد الأوروبى لسيادة وحرمة أراضى بلاده. واتهم لوكاشينكو السلطات البولندية بانتهاك حدود بيلاروس واستخدام القوة ضد المهاجرين العزل الموجودين داخل أراضى بلاده. كما اتهم رئيس بيلاروس بلدان الاتحاد الأوروبى بالتدخل فى الشئون الداخلية لبلاده، معيدا إلى الأذهان ما سبق وشهدته بيلاروس من اضطرابات فى أعقاب الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية، وما قامت به بولندا من دعم لتحركات المعارضة وإيواء ممثليها واستخدام أراضيها كمراكز لإدارة الاضطرابات ومحاولات الإطاحة بالسلطة الشرعية فى بيلاروس. وقال إن بلاده تشعر وكأنها “فى حالة حرب”.

وفى الوقت الذى تقف فيه موسكو على مقربة، تحاول رأب الصدع، واحتواء الخلافات الناجمة عن اصرار المهاجرين على الوصول إلى ألمانيا هدفهم النهائي، سعيا وراء التمتع بوضعية المهاجر أو اللاجئ السياسي، بما يترتب على ذلك من امتيازات مادية ومعنوية، يشخص لوكاشينكو بكل قامته مستعيدا وضعية رئيس الدولة الذى تنشد قيادات عدد من بلدان الاتحاد الأوروبى التعامل معه، من أجل التوصل إلى حلول مقبولة للخروج من الأزمة الراهنة. وذلك ما تناوله جيفورج ميرزايان المعلق السياسى لصحيفة “فزجلياد” (وجهة نظر) الروسية الالكترونية بقوله إن ألكسندر لوكاشينكو يحاول استغلال ورقة المهاجرين تأكيدا على كسبه الرهان، مشيرا إلى أن “ الاتحاد الأوروبى عقد فى الخامس عشر من نوفمبر الجارى قمة خصصها لمناقشة الأزمة على الحدود البيلاروسية البولندية، وخلص إلى عدد من القرارات أهمها: عدم فتح الحدود، وتطبيق حزمة من العقوبات ضد بيلاروس”. وأضاف ميرزويان أن الجانب البيلاروسى يعتقد أنه حقق الكثير من المكاسب فى علاقاته مع الاتحاد الأوروبي، ومنها ما “يزعمه” أنصار لوكاشينكو، على حد قوله، حول أنه أنجز عددا من المهام ومنها تجاوز المقاطعة الأوروبية، وبدء مفاوضات مباشرة مع الاتحاد الأوروبي، ما يعنى اعتراف هذا الاتحاد بلوكاشينكو رئيسا شرعيا لبيلاروس، بعد أن اضطرت زعيمة ألمانيا شخصيا إلى الاتصال به فى مكالمة هاتفية استغرقت 50 دقيقة”. وقال أيضا إن الجانب البيلاروسى استطاع الالتفاف حول جدول الاعمال التقليدى الذى طالما حدده الاتحاد الأوروبى موضوعا للتعامل مع بيلاروس وكان يدور طوال ما يزيد على العام حول موقف المعارضة ونشاطها الذى يستهدف الإطاحة بالرئيس لوكاشينكو. وتقول المصادر الرسمية إن الجانبين عكفا خلال الفترة الأخيرة على تدارس جوانب مشكلة الهجرة، التى اعترف الاتحاد الأوروبى بأنه لا يمكن حلها من دون التعاون مع مينسك. وأضاف ميرزويان جانبا آخر، ثمة من يعتبره إنجازا حققته الدبلوماسية البيلاروسية، ويتمثل فى تجاوز مينسك للجانب البولندى الذى طالما اتهمته بالعمل ضد بيلاروس، والتحول الى مناقشة الأزمات الراهنة مع ألمانيا بوصفها أحد أهم اقطاب الاتحاد الأوروبي. غير أن هناك من يرى فى ذلك قفزا على الواقع الراهن، لأسباب أهمها أن الاتحاد الأوروبى يظل حتى اليوم عند موقفه الموحد الرافض لتصرفات بيلاروس، والمؤيد لبولندا. وقال ميرزويان باستحالة الإفصاح علانية عن معارضة سافرة من جانب ألمانيا وبروكسل ضد مواقف وسياسات بولندا، نظرا لاحتمالات أن يعتبر البعض ذلك انشقاقا ينال من وحدة وكيان الاتحاد الأوروبي، فى توقيت بالغ الحرج.

وعلى الرغم من توصل الأطراف المعنية إلى عدد من الحلول “النصفية” التى ساهمت نسبيا فى التخفيف من حدة الأزمة وتصاعد وتيرتها، فإن الأوضاع لا تزال فى المناطق الحدودية تحمل بين طياتها بذور احتمالات عودة المواجهات التى يظل الأطفال والنسوة وقودها الأساسي. وكشفت المصادر العراقية الرسمية عن توصلها إلى اقناع عدد من الراغبين فى الهجرة بالتخلى عن سابق أحلامهم والعودة إلى العراق، وما أعقب ذلك من ترحيل 431 من المهاجرين العالقين على الحدود البولندية البيلاروسية، إلى أربيل فى شمال العراق، ومنها إلى بغداد فى وقت لاحق. كما كشف المتحدث باسم حكومة إقليم كردستان عن اعتقال عشرة من المتورطين فى تسفير مئات العراقيين إلى بيلاروس بغرض نقلهم لاحقا إلى ألمانيا وبلدان الاتحاد الأوروبى للحصول على حق الهجرة. ونقلت وكالة “سبوتنيك” الحكومية الروسية عن ماجد الكيلانى القنصل العراقى لدى روسيا وبيلاروس، الموجود حالياً فى العاصمة البيلاروسية مينسك، ما قاله حول “أن عدد الذين قدموا طلبات للعودة إلى العراق من الموطنين العالقين على الحدود البيلاروسية البولندية، بلغ حالياً 300 شخص”. ومن جانبها أعلنت ماهيم أورازمحمدوفا ممثلة المنظمة الدولية للهجرة فى بيلاروس، أن مشكلة اللاجئين على الحدود البيلاروسية البولندية لا يمكن حلها إلا من خلال الإجراءات المشتركة بين بيلاروس والدول المجاورة. وأضافت فى هذا الصدد “نشعر أننا فى حالة حرب، وتدعو منظمتنا الدول إلى حل مشترك فورى للمشكلة. وهنا نتحدث عن بيلاروس والدول الأوروبية المجاورة. كما ندعو الدول إلى احترام القانون الدولى وحقوق اللاجئين والبدء على الفور فى حل المشكلة”. ونقلت وكالة أنباء بيلتا (البيلاروسية) عن أورازمحمدوفا تصريحاتها حول أن مكتب المنظمة الدولية للهجرة فى وارسو يعمل أيضًا فى هذا الاتجاه، حيث ينظم اجتماعات مع الشركاء. وقالت: “يتم الاستماع إليهم. لكن يجب على الدول اتخاذ قرار مشترك بشأن الممر الإنساني”. ورغم ما سبق وأعلنت عنه ألمانيا حول استعدادها لقبول المهاجرين الذين وفدوا من مناطق الشرق الاوسط، فقد نقلت صحيفة “بيلد” الألمانية فى عددها الصادر يوم الجمعة الماضى عن هايكو ماس وزير خارجية جمهورية ألمانيا الاتحادية رفضه لقبول المهاجرين غير الشرعيين الموجودين على حدود بيلاروسيا مع دول الاتحاد الأوروبي- لاتفيا وليتوانيا وبولندا، فى ألمانيا وأوروبا. وفى هذا الصدد قال ماس: “لقد التقى وزراء خارجية أوروبا يوم الاثنين الماضي، وأجمعنا على الرأى بوجوب إعادة هؤلاء الناس إلى البلدان التى أتوا منها. وأى شيء آخر يعنى تحقيق لوكاشينكو” لمراده. وأشار المسئول الألمانى إلى أن أعضاء الاتحاد الأوروبى “لا يريدون بناء جدران حول أوروبا”. وقال: “لكن أولئك الذين يسعون جاهدين من أجل الهجرة المنظمة يجب أن يحرصوا أيضًا على ألا يحقق مراده، كل من يريد أن يكون قادرًا على عبور الحدود”‪.‬ وكشف عن ان ألمانيا قبلت بالفعل ما يقرب من 10 آلاف مهاجر وصلوا إلى الاتحاد الأوروبى عبر بيلاروس، مؤكدا انه من المهم تقديم المساعدة الإنسانية على الفور. وشدد على أن “هذا يحدث. لكن يجب إعادة الناس إلى بلدانهم الأصلية”. وللمزيد من توضيح وجهة نظره قال وزير خارجية ألمانيا إنه يعتقد فى ان بلاده ليست فى وضع مماثل لأزمة الهجرة عام 2015. كما أعلن عن اختلافه مع تأكيد رئيس الوزراء البولندى ماتيوز مورافيتسكى على أن أنجيلا ميركل ارتكبت خطأ فى عام 2015 عندما قبلت اللاجئين. وقال ماس “إنه مخطئ”، مشيرًا إلى أن العالم، فى تقديره، يحترم تصرفات وجهود ألمانيا التى بذلتها ابان ذروة أزمة الهجرة‪.‬

ولعل ذلك كله يقول إن المدنيين العزل الوافدين من مناطق الشرق الأوسط بحثا عن السلوى والملاذ بين أحضان الغرب “المضياف الحنون”، صاروا اشبه بـ “المستجير من الرمضاء بالنار”، كما يقال، بعد أن تحولوا عن غير طيب خاطر إلى وقود فى مسلسل المواجهة التى ليس لهم فيها ناقة ولا جمل. كما أن ما جرى ويجرى على الجبهة الغربية لروسيا وحليفتها بيلاروس ليس سوى فصل جديد من فصول المواجهة التى تتواصل بين روسيا وخصومها فى الولايات المتحدة وحلفائها من بلدان الاتحاد الأوروبى منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية فى عام 2014، وهو ما تناولنا فى أكثر من تقرير من موسكو، بعض مشاهدها ومنها المناورات الأخيرة التى أجراها حلف الناتو فى حوض البحر الأسود على مقربة مباشرة من الأراضى الروسية.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق