كان واحدًا من مدرسة الشعراء الظرفاء: ابن الأحنف وابن سهل والبهاء زهير وإخوانهم من شعراء يتيمة الدهر ونفح الطيب، نعرفهم بسيماهم فى كل عصر وفى كل بلد، ويجمعهم لنا عنوان الظرف حيث كانوا بين مدارس عصورهم فلا تخال غير ديوانه فى هذا العصر إذ دعونا بديوان الشاعر الظريف، وشعره يتميز بالرقة والدقة، هذا ما قاله الكاتب العملاق عباس محمود العقاد فى شاعرنا الجميل إبراهيم ناجى «1898 ــ 1953» وكل محبى الشعر يعرفون قصة حياة هذا الشاعر الجميل الرقيق ويحفظون معظم أشعاره ويحفظ الكثير من العامة قصيدته الأشهر فى التاريخ الحديث وأعنى «الأطلال» التى تغنت بها كوكب الشرق أم كلثوم، ولكنى أريد أن أتكلم عن وجهه الآخر وهو الوجه الساخر المحب للنكتة والتى برع فيها وكان أحد أساطينها وربما لا يعرف الكثيرون أنه ورث هذه الصفة أو الموهية عن أمه فقد كانت تتمتع بخفة ظل محببة إلى النفس وتتسم بصفات إنسانية جميلة، ومما يروى عنها أن ابنها ناجى عندما همّ بالزواج أراد أن يخطب كريمة عبدالحميد بك الصحن مدير عام مصلحة البريد، فقالت له أمه مداعبة: بنت «الصحن» دى إنت مش قدها.. دى عاوزة واحد من عيلة «المكبّاتى»!!.
وقد نشأ الشاعر على طرازها فى براعة النكتة وحضور الذهن؛ فكان من ظرفاء عصره وكانت له نكات مأثورة تناقلتها الألسن، وما زالت تعيش بيننا حتى الآن، ويروى عنه أنه كان يجلس مع آنسة حسناء كانت تسمعه بعض قصائدها ولما أرادت الانصراف ألحّ عليها لتجلس حتى يسمع منها قصيدة جديدة ولكنها أصرت على الانصراف لارتباطها بموعد.. فوقفت ثم قالت: تقعد بالعافية يا دكتور؛ فأمسك بيدها وجذبها نحو المقعد وقال: إنتى اللى لازم تقعدى بالعافية!!.
وزارته إحدى السيدات وقدمت له قصيدة وهى تقول: شوف لى القصيدة دى يا دكتور. فقرأها ناجى ووجد معظم أبياتها مكسورا، ولما لاحظ أنها مكتوبة بالحبر الأحمر قال لها مبتسمًا: القصيدة دى عيَّانة بالحصبة يا هانم!
اتصل أحد الشعراء به وكان لم يره منذ أمد بعيد وأنشد مطلع موال: يا حلو مالك كده هاجر وروحى فيك.
فأتمّ ناجى المطلع بقوله: التـُقل شرعه كده والحشمة والتكتيك!
وذات يوم سأله شاعر الشباب أحمد رامى مداعبًا: ما وجه الشبه بين الشيوعية والفجل؟ فقال ناجى على الفور: الاتنين فيهم «روس»!.
وتزوج أديب معروف من أصدقائه وتفقده أصدقاؤه بعد الزواج وبحثوا عنه دون أن يجدوه ولما سألوا عنه ناجى قال لهم: يا إخوان ده مستتر جوازا!.
ودُعى إلى عقد قران صديق له وبينما كان المدعوون جالسين مع المأذون فى انتظار العريس دخل أحدهم وقال: العريس واقف بره سكران؛ فصاح ناجي: الحقوا هاتوه قبل ما يفوق!.
رأى ذات مرة فقيهًا ضريرًا يمسك بيده مسبحة كهرمان ويغنى طقاطيق سلطانة الطرب منيرة المهدية فقال ناجي: الراجل ده بيقلد منيرة المهدية تقليد «أعمى»!!.
ومن نوادره المأثورة قال: إن مريضا ذهب إليه فى عيادته وكان فقيرا للغاية وكشف عليه فلم يجد به داءً إلا الجوع فأخرج من جيبه جنيها وقدمه للرجل وقال له: خذ هذا الجنيه وهات به زوجًا من الدجاج وكله وستشفى بإذن الله وخرج الرجل يدعو له وبعد أسبوع صادفه فى الطريق فسأله: كيف حالك الآن؟ فقال الرجل: الحمد لله ربنا يخليك لنا يا دكتور.
هيه..هل أكلت زوج الدجاج؟ فقال الرجل: لا يا دكتور..فقال ناجي: إذن فيم أنفقت الجنيه؟ قال الرجل بطيبة وحسن نية: ذهبت به إلى دكتور كويس عالجنى من علتى وشفيت الحمد لله!.
سافر ناجى إلى لندن عقب صدور ديوانه «وراء الغمام» سنة 1934 ليشهد مؤتمرا طبيا هناك, وبينما هو فى لندن وجد معركة دائرة حول ديوانه ونصيب القادحين فيها أكثر من نصيب المادحين, ومنها مقال لكاتب شهير كان يتوقع منه كلمة استحسان إلا أن المقال جاء عكس ما توقع, فغامت الدنيا فى عينى الشاعر ودهمته سيارة عابرة ونُقل إلى مستشفى سان جورج بلندن ولزم الفراش أسابيع طويلة انتهت بجراحة خطيرة كللت بالنجاح.
وعندما عاد إلى مصر هاله أن يجد بين أصدقائه شاعرًا معروفًا طالما تغنى بقصائد «وراء الغمام» ولكنه تنكر لصاحبه ولشعر صاحبه؛فهجاه ناجى لأول مرة وهذا على عكس ما اشتهر به من رقة وإنسانية قائلًا:
أيها الحيُّ, ومــا ضرَّ الورى لو كنتَ مِتَّا؟
أوَ شعرٌ ذاكَ؟ لا.. بـــــــل حجرٌ يُنحَتُ نحتَا
تلقمُ النـَّاس وترمــيهم بــــهِ فوقَاً وتحتَا
صِحْتُ مـــن يأسيَ لمَّا بركيكِ الشعر ِصِحْتَا
آهِ يا قاتلُ.. يا سفَّاحُ حتَّى أنتَّ..حتَّى؟
وقصيدة أخرى تمثل نفس النهج قالها فى هجاء الشاعر «عبدالحميد الديب» شاعر البؤس والحرمان صاحب اللسان الزالف والهجاء الدامى، وقد كان ناجى كثير الإحسان إليه والمداعبة له..فقال يهجوه:
رجلًا أرى باللهِ أم حَشَــرة؟
سبحانَ مَـــنْ بِعبيدِهِ حَشَرَهْ
يــا فخرَ داروين ومذهبهِ
وخلاصة النظريةِ القـذرَه
أرأيت قردًا فـى الحديقةِ قدْ
فلَّته أُنثاهُ علــى شَجرَه
عبدَ الحميدِ اعلم فأنت َكذا
ما قالَ داروين ومـــا ذَكرَه
يـــا عبقريًّا فى شناعتِهِ
ولدتكَ أمُّكَ وهيَ مُعْتذِرَه
وقد هاجمه الدكتور طه حسين هجوما عنيفا بعد صدور ديوانه «وراء الغمام» ووصفه بأنه أديب بين الأطباء وطبيب بين الأدباء, وقد حزّ هذا النقد فى نفس ناجى وجعله يشعر بمرارة شديدة إلا إنه ثأر لنفسه بنكتة فقال: أنا من هنا ورايح حاكون طول النهار مع الدكتور طه حسين والدكتور طه بدوى عشان أحس إنى أديب!.
رابط دائم: