التاريخ يعيد نفسه، مقولة كثيرا ما رددها البعض وشكك فيها البعض الآخر، ولكنها تنطبق بصورة واضحة جلية على أرمينيا، تلك الدولة الصغيرة من حيث المساحة، والثرية من حيث التاريخ والثقافة والفنون، التى فرض عليها موقعها الجغرافى فى جنوب القوقاز، أن تظل أسيرة تشابكات وصراعات القوى الإقليمية فى تلك المنطقة على امتداد تاريخها.
وفى إطار عمليات المراجعة السياسية لبعض الوقائع التاريخية التى تركت أثرها العميق على أرمينيا، وتسببت فى الوضع الذى أصبحت عليه الآن بكل تعقيداته، شهدت العاصمة «يريفان» مؤخرًا مؤتمرًا دوليًا كبيرًا تحت عنوان «أرمينيا والإقليم .. الدروس والتقديرات والرؤى» نظمته الأكاديمية الوطنية الأرمينية للعلوم، وكل من معهد الدراسات الشرقية، ومعهد التاريخ التابعين لها، وذلك بمناسبة مرور مائة عام على إجبارها على توقيع اتفاقيتى «موسكو» و«كارس» عام 1921، اللتين يعتبرهما الجميع البداية الحقيقية لكل الأزمات التى عاشتها ولاتزال تعيشها أرمينيا حتى الآن، وذلك بحضور ومشاركة عدد كبير من الأكاديميين والباحثين من الداخل ومن أرمن الشتات من الولايات المتحدة وكندا ولبنان، وبمشاركة مصرية تمثلت فى حضور السفير بهاء دسوقى سفير مصر لدى أرمينيا، والسفير غير المقيم فى جورجيا، ود. خالد عكاشة رئيس المركز المصرى للفكر والدراسات الإستراتيجية، والدكتور أرمين مظلوميان رئيس الهيئة الوطنية الأرمينية بمصر، وهى مشاركة كانت محل ترحيب وتقدير كبيرين من الجانب الأرمينى، ليس فقط بسبب الثقل الذى تمثله مصر، ولكن أيضا بسبب الحضور والوجود النشط للسفير المصرى فى يريفان، والشراكة العلمية بين معهد الدراسات الشرقية، والمركز المصرى للفكر والدراسات الإستراتيجية، فضلا عن الروابط التاريخية والإنسانية التى تربط بين الشعبين.
وعلى مدى يومين ناقش المجتمعون العديد من القضايا التى تتمحور كلها حول المعاهدتين، من كل جوانبها القانونية والسياسية والتاريخية، وعلاقاتها بالصراعات الحالية بالإقليم، والتطورات السياسية والعسكرية الجارية فيه، والدروس المستخلصة من هاتين المعاهدتين، بعد مرور قرن على توقيعها، ومدى صلاحيتهما فى وقتنا الحالى وملاءمتهما للقانون الدولى الآن، فضلا عن الحديث عن طموحات القوى الإقليمية، وموقف أرمينيا الحرج فى مواجهة هذه الضغوط، فى ظل التنافس المحموم لهذه القوى، على فرض سيطرتها وهيمنتها على المنطقة، لضمان مصالحها السياسية والاقتصادية، وحدود القدرة الأرمينية على المناورة للحفاظ على حقوقها التاريخية من الضياع، فى خضم التغيرات الجيوسياسية التى تحدث على أرض الواقع.
ومنذ اللحظة الأولى لانطلاق جلسات المؤتمر، يشعر المتابع أن التاريخ ليس فقط حاضرًا فى جلسات المؤتمر وكلمات المشاركين وأوراقهم البحثية المقدمة، ولكنه ربما يكون كلمة السر أو مفتاح تفسير كل ما عانت ـ ولاتزال ـ تعانى منه أرمينيا حتى يومنا هذا.
فهناك قناعة تامة لدى الجميع، بأن المعاهدتين التى أجبرت أرمينيا على التوقيع عليهما منذ مائة عام، وتم بموجبهما اقتطاع مساحات واسعة من الأراضى الأرمينية استجابة للضغوط الروسية فى ذلك الوقت، لاتزال تمثل حجر الزاوية لمشاكل أرمينيا الحدودية، منذ أن كانت جزءًا من جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق، وحتى الاستقلال عنه عام 1991، بل والمسئولة الأساسية عن حالة الشتات والهجرة الأرمينية.
وفى هذا السياق، أسهب المشاركون فى الحديث عن تاريخ منطقة القوقاز والتطورات الحادة التى مر بها، والتداعيات السياسية والإنسانية التى ترتبت على الترسيم غير العادل لحدود أرمينيا، والذى يُعد من وجهة نظرهم السبب الحقيقى وراء اندلاع النزاعات المسلحة فى المنطقة بين الحين والآخر.
ومع إقرار المشاركين بأن مرور هذه الفترة الطويلة على وجود هاتين المعاهدتين، كفيل بأن يجعلهما أمرًا واقعًا، فإن ذلك لم يمنع من الحديث عن أهمية إجراء العديد من المراجعات، خاصة فى ظل إمكانية حدوث تحولات فى ميزان القوى بمنطقة جنوب القوقاز، والتقلبات الحادة التى تشهدها، وفى ظل كذلك حالة الزخم السياسى فى الداخل والنقاش المجتمعى الدائر حول مدى نجاح رئيس الوزراء «نيكول باشنيان» فى إدارة الأزمة الأخيرة وتشكيك المعارضة فى صحة قراراته وتوافقها مع مصلحة البلاد.
ومن ثم، فإن حدوث هذه المراجعات ليس فقط للحفاظ على الحقوق التاريخية لأرمينيا، وضمان عدم تلاشيها بحكم تقادم الذكرى، ولكن الأهم والأسمى، هو محاولة عدم الوقوع مرة أخرى ضحية لهذه الصراعات وتفادى أخطاء الماضى، ومن هنا كان حرص منظمى المؤتمر، على التأكيد أن الهدف الأساسى له ليس مناقشة ما تم قبل مائة عام، ولكن البحث عن طرق جديدة بديلة للخروج من الوضع الراهن.
وفى سبيل البحث عن هذه البدائل، ناقشت الأوراق البحثية المقدمة بالتفصيل دور القوى الإقليمية، وحظى الدور الروسى بجانب مهم ومطول من المناقشات، حيث بدا واضحًا من المداخلات، إدراك واقتناع الأغلبية بأن روسيا أهم لاعب إقليمى فى المنطقة، بحكم النفوذ السياسى التاريخى وقواتها العسكرية المتواجدة على الأرض، وقدرتها على فرض كلمتها ووضع حد للمواجهات العسكرية، كما حدث فى الآونة الأخيرة. وذلك بالرغم من محاولات قوى إقليمية تقليدية أخرى أن تمارس بدورها قدرًا من النفوذ.
وفى يومه الأخير، خصص المؤتمر جزءًا كبيرًا من مناقشاته للحديث عن التحديات القائمة أمام السياسة الخارجية والدبلوماسية الأرمينية، بعد مائة عام من توقيع المعاهدة، وفى ظل التغيرات والتطورات الحالية، والبدائل المطروحة والمتاحة أمامها، وحتمية أن تحقق أى اتفاقيات مستقبلية بين الأطراف المختلفة منافع مشتركة.
وناقش الحضور الأفكار المطروحة، بشأن إقامة ممرات تجارية بين بعض أطراف الإقليم، محذرة من اتخاذ قرارات غير محسوبة جيدا لتفادى حدوث مزيد من التعقيد فى موقف أرمينيا، وألقت إحدى الأوراق المقدمة الضوء على أهمية استخدام كل الأدوات الدبلوماسية المتاحة أمام صانع القرار، حتى لو لم تؤت ثمارها فى الوقت الحالى، فسوف تنجح فى المستقبل، مشددة على ضرورة الاستعانة بالقرائن القانونية اللازمة، لدعم مواقف أرمينيا فى أى مفاوضات مستقبلية بشأن إعادة ترسيم حدودها.
واقترحت الورقة فكرة ضرورة الحوار مع الخصوم، باعتباره أمرًا حتميًا لا مفر منه، وكذلك البحث عن مقاربة جديدة للحوار مع الدول الحليفة والداعمة، وفى مقدمة هؤلاء بالطبع روسيا، التى طالبت الورقة البحثية بضرورة إضفاء الطابع المؤسسى عليها، لتلافى الأخطاء التى وقعت فى الماضى، ونتجت من الإصرار على اتباع سياسات قديمة والتغافل عن التطورات الجديدة على أرض الواقع، وحتمية بناء دائرة من الدول الداعمة وتطوير برامج شراكة مستقرة معها، مع الإبقاء على روابط قائمة ومتصلة مع الدول الصديقة والحليفة، لضمان استمرار المسالة الأرمينية فى دائرة الاهتمام الدولى، وهو الهدف الذى يسعى الجميع لتحقيقه.
ومع أن الطابع الأكاديمى كان فى البداية هو السمة الغالبة على المؤتمر، إلا أنه مع توالى الجلسات وتنوع التناول للقضايا المطروحة، ظهر جليًا أن أهمية هذه المؤتمرات لا تقتصر فقط على جوانبها الأكاديمية أو كونها منصة للبحث ومرجعًا مفصلا لأزمة عصفت بدولة منذ قرن مضى، ولكن قيمتها الحقيقة تتمثل، فى دراسة الأخطاء والخروج بدروس تفيد حاضرها، وتشكل نظرتها للمستقبل، لضمان ألا تتكرر مرة أخرى، ولكى لا تكون عبارة التاريخ يعيد نفسه، دائرة مفرغة لا يمكن الفكاك منها.
رابط دائم: