شدتنى رسالة د. بهاء حسب الله فى «بريد الأهرام» بعنوان «عصرنة اللغة» التى تتناول التعليم فى مصر.. فالشباب اليوم فى أى محفل كالأندية أو الجامعات وحتى مواقع التواصل الاجتماعى يتكلمون ويكتبون العربية متكئة على الإنجليزية أو الفرنسية، والأدهى من ذلك يعلنون دون خجل بأنهم غير قادرين على مواصلة شرح ما هو قائم فى عقولهم باللغة العربية التى برهنت على قوتها فى العصور الخالية، وبقيت لغة العلم الوحيدة حتى القرن الـ 15، وأكدت استيعاب جميع المصطلحات العاطفية والفلسفية والعلمية والدقة المتناهية فيما يقع تحت الحس ويجول بالخواطر، فيقول المستشرق الأوروبى «أرنستريتانان» أن لغة قوية تنبت وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها فى كل أطوار حياتها، ولا تكاد تعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التى لا تبارى، ولعبت دورا أساسيا كوسيلة لنشر المعارف وآلة التفكير خلال مرحلة الحضارة العربية.
ونشهد اليوم محاولات تجرى فى العالم هنا وهناك لتكوين تكتلات سياسية واقتصادية بالرغم من تباين لغات هذه الدول، ولسنا فى حاجة لاختراع لغة جديدة تجمع بيننا، وبقدر من العناية يمكن للغة العربية أن تكون عاملا مهما فى وحدتنا كما كانت على مر العصور.
إننا نعيش ازدواجية فى حياتنا، حيث الطبقة المثقفة بعيدة عن عالمنا الذى نعيش فيه، وانفصلت عن أبناء الأمة، فلا هى قادرة على أن تفهمهم ولا هم بقادرين على فهمها فكل من الجانبين يتكلم بلغة مختلفة عن الآخر.
وأرى أنه إذا اعتمد شبابنا على لغتهم الأصلية فسيكون فى مقدرتهم تلقف العلم حيث يطيب وتحصل الأمة على عصارة الحضارة من جميع أنحاء العالم، فلقد استوعبت العربية بالفعل العلوم القديمة.
ففقر اللغة المزعوم ليس بسبب اللغة نفسها، بل بسبب أبنائها الذين هالتهم وفرة الاصطلاحات فى مختلف العلوم المتنوعة فوقفوا أمامها واجمين.. إن اللغة العربية تتألف من ثمانية وعشرين حرفا (ما عدا الهمزة) والأفعال فيها مركبة من ثلاثة حروف، فإذا تم التأليف بينها فى جميع التراكيب الممكنة لحصلنا على 19656 كلمة لا تتشابه فيها أى كلمة مع أخرى، وليس فيها حرف يشابه الآخر، فعبقرية اللغة العربية قد أتت من توالدها فكل كلمة تلد بطونا والمولودة تلد بدورها بطونا أخرى فحياتها منبعثة من داخلها.
إننا عندما أخذنا بالأسباب وتماسكت جبهتنا الداخلية وارتفع مستوى لغة الأداء الجماعي، عبرت الأمة العربية من اليأس والهزيمة إلى النصر وأدرك العالم كله أننا قوة ينبغى احترامها، واعترفت الأمم المتحدة باللغة العربية كلغة رسمية، فقضية اللغة العربية فى مواجهة تحديات العولمة وثورة الاتصال والقنوات الفضائية والسبق العلمى وثورة الهندسة الوراثية التى طالما نتتبعها صباحا ومساء، لم تعد مسألة اختيار قبولا أو رفضا، فالأمر يحتاج من العقل العربى أن يحدد الأوليات للمحافظة على أحد ثوابت الشخصية العربية وإحدى الدعائم والركائز الأساسية فى بناء الإنسان العربى المعاصر، فهى وعاء الفكر والعقل.
د. حامد عبد الرحيم عيد
أستاذ بعلوم القاهرة
رابط دائم: