أدخل رجل الأعمال الأمريكى أيلون ماسك عناصر جديدة على برامج ارتياد الفضاء الخارجى وسريعا ما أذهل العالم. نافس على الكلفة المالية وفاز بها، وغامر بتبنى أحدث الابتكارات العلمية فسبق الروس والأمريكيين والصينيين. والآن، تلهث البرامج الفضائية الأخرى شرقا وغربا للحاق به، فهل تستطيع ذلك؟. ومتى؟.
طرحت صحيفة «فاينانشيال تايمز» هذا السؤال فى تقرير مطول تناولت فيه أبعاد برامج شركة «سبيس إكس» الفضائية التى ينفذها ماسك، والمزايا النسبية لمخترعاته مقارنة بالآخرين، والمخاطر الدولية التى ينطوى عليها نجاح برنامجه إذا ما تبنت وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» شركته بدلا من تضييع الوقت، والجهد، والمال لمنافستها. وتستعرض السطور التالية أبرز ما جاء فى هذا التقرير.
أحلام عريضة
عند تأسيس شركته قبل 13 عاما، قال ماسك إن طموحه الأساسى هو نقل الإنسان إلى كوكب المريخ، والعمل على بناء مستعمرة بشرية دائمة هناك، ثم تحويل السفر عبر الفضاء إلى مجرد رحلة سياحية شائقة تتاح لعموم الناس يوما ما. وبعد عدة محاولات منيت بالفشل، نجح فى صناعة الصاروخ فالكون/9 ليثبت جدارته كوسيلة إطلاق موثوقة فى نصف الكرة الأرضية الغربي. واستكمالا لمسيرته، بدأ فى تصنيع صاروخ فضائى جديد أطلق عليه اسم «ستارشيب» ويتميز عن غيره فى برامج الفضاء العريقة بإمكان إعادة استخدامه، وسعته اللافتة فى الشحن، فضلا عن كفاءته التشغيلية العالية فى كل رحلة.وينتصب هذا الصاروخ حاليا بارتفاع نحو 122 مترا فى قاعدة الإطلاق على ضفاف خليج المكسيك، عند أقصى الطرف الجنوبى لولاية تكساس. وإلى جانب طوله اللافت مقارنة بغيره، يتميز بوجود 33 محركا نفاثا تؤمن له ضعف قوة الاندفاع المتعارف عليها فى صواريخ الإطلاق المعتادة. كما يمكن لعنبر الشحن فى هذا الصاروخ نقل مائة طن كاملة من المستلزمات ووضعها فى مدار منخفض حول الأرض عند الضرورة. ويعنى هذا إمكان استخدامه فى ارتياد الفضاء السحيق، وتلبيته للاستخدامات التجارية الشائعة. إزاء هذه المزايا، لم يخف المختصون انبهارهم بالصاروخ الجديد. وباتوا يرون أن ابتكارات ماسك الفنية ستغير من اقتصادات صناعة إطلاق الصواريخ الفضائية عموما إذا ما عادت مراحل الصاروخ إلى الأرض بسلام وفقا للخطة الموضوعة، علاوة على تخفيض كلفة وضع الأقمار الاصطناعية فى مداراتها لاحقا خلال الاستخدامات التجارية.
ويقول بيتر ديامانديس، وهو رجل أعمال أمريكى يعمل فى نفس النشاط: «لا توجد وسيلة إطلاق على كوكب الأرض يمكنها منافسة هذا الصاروخ. انتهت اللعبة بالنسبة لشركات الإطلاق القائمة!». ويضيف: «هذا الصاروخ هو أنجح ما بنته البشرية من نواحى الأداء، والكلفة، والاعتمادية». أما جيف بيزوس مالك شركة أمازون عملاق التسويق العالمي، فيرى أن الصاروخ ستارشيب سيحتكر صناعة ارتياد الفضاء السحيق بالنسبة للولايات المتحدة فى خلال الأعوام القليلة المقبلة. ويملك بيزوس شركة «بلو» للصناعات الفضائية وخدمات الإطلاق، وتنافس (نظريا) شركة سبيس إكس.
تطويع علوم الصواريخ
يتنبى إيلون ماسك تكتيكات إنتاجية ناجحة أثبتت فعاليتها فى مصنع تسلا للسيارات الكهربائية، درة إمبراطوريته الصناعية. فبعكس صناعيين آخرين فى الولايات المتحدة، يعتمد ماسك على أسلوب خطوط الإنتاج المتكاملة وليس على التعاقد مع موردى المكونات. ويحرص على تصميم مكوناته من الألف إلى الياء، بنفسه أحيانا، وإنتاجها بأحدث التقنيات المتاحة. فعلى سبيل المثال، استخدم تكنولوجيا الطابعات ثلاثية الأبعاد فى إنتاج محركات الصاروخ فالكون/9 وهى أكثر الأجزاء تعقيدا فى الصاروخ بكامله. وساعده ذلك أيضا فى ابتكار صاروخ للدفع يمكن استعادته وإعادة استخدامه فى رحلات تالية. وللمفارقة، أفاد ذلك فى خفض الكلفة الإنتاجية النهائية بصورة ملحوظة. فقد تكلف تطوير وإنتاج فالكون/9 نحو 400 مليون دولار فقط. وقدرت وكالة ناسا الاستثمارات اللازمة بعشرة أضعاف هذا الرقم إذا أنتجته بمعرفتها.
ومن جهة أخرى، تميز ماسك بقدرته على تعبئة رءوس الأموال الرخيصة من أجل مشروعاته استنادا لعاملى النجاح وحسن السمعة. ففى بداية العام، جمع نحو سبعة مليارات دولار من أسواق رأس المال مما رفع من القيمة السوقية لشركته.
النجاح بالأرقام
ارتفعت القيمة السوقية لشركة سبيس إكس إلى أكثر من مائة مليار دولار فى العام الحالى مقابل 74 مليار دولار العام الماضي. ويرجع الإقبال على حيازة أسهم الشركة إلى سلسلة التعاقدات التى أمنتها فى خلال الفترتين الماضية والمقبلة. ولعل من أبرزها عقدا بقيمة نحو ثلاثة مليارات دولار مع وكالة ناسا لاستخدام الصاروخ ستارشيب فى نقل رواد الفضاء إلى القمر اعتبارا من عام 2024. كما أعلنت الشركة حصولها على نصف مليون طلب تعاقد على الأقل للاشتراك فى خدمة شبكة الاتصال ستارلينك عريضة الموجة.وتعمل هذه الشبكة عبر سلسلة أقمار صناعية تدور فى مدار الأرض المنخفض على ارتفاع 500 كيلومتر تقريبا عن سطح الأرض. وتعد ستارلينك أول شركة (حتى الآن) فى مجال الجيل الجديد للاتصالات تعمل انطلاقا من الفضاء. كما صرفت ناسا النظر عن استخدام صاروخ بوينج الفضائى لمصلحة ستارشيب بغرض نقل رائدى فضاء. وكانت بوينج من الشركات الرائدة فى بدايات عصر الإطلاق إلى الفضاء قبل أن تواجه عدة مشاكل فنية فى الأعوام الأخيرة.
ومن الناحية الإحصائية البحتة، ارتفعت حصة شركة سبيس إكس من سوق الإطلاق العالمية (باستثناء الصين) بنسبة 50% خلال النصف الأول من العام الحالى مقارنة بالفترة المناظرة من العام الماضي. ومن المنتظر أن تواصل الشركة اتجاهها الصعودى بفضل الصاروخ الجديد. وحتى ندرك حجم هذا النشاط عالميا، يتوقع مصرف دويتشه الألمانى ارتفاع قيمة سوق الإطلاق إلى الفضاء الخارجى إلى نحو 38 مليار دولار سنويا بحلول عام 2030 أى خمسة أضعاف قيمتها المعلنة فى العام الحالى.
وبينما يترقب العالم العد التنازلى لإطلاق الصاروخ ستارشيب من ولاية تكساس، بدأ الخبراء فى حساب التغيرات المنتظرة فى اقتصادات إطلاق الأقمار الصناعية وصناعة الاتصالات، ولن تكون حساباتهم فى مصلحة منافسى ماسك على الإطلاق.
رابط دائم: