ماذا لو كان المرء محبا لعلوم الكيمياء أو الفيزياء أو التاريخ أو شغوفا بأصول العمارة وفنون النحت، فهل يمكنه أن يرضى كل هذه الاهتمامات بالعمل فى مهنة واحدة؟ وهل يمكن أن يزيد على ذلك بأن تكون تلك المهنة بوابته للانتقال بين الحقب التاريخية المختلفة؟ الإجابة المختصرة تفيد بأنه يمكن. والإجابة المفصلة تحيل السائل إلى أصحاب مهنة الترميم الأثري، وتحديدا فى معبدالكرنك المرابط فى قلب مدينة الأقصر. فهناك التقت الأهرام اثنين اجتمعا على حب الآثار وفنون ترميمها وعلى مشاركة الحياة الزوجية أيضا، وهما محمد جاد ومروة حسن.
فى البداية، يوضح محمد جاد، مدير الترميم بمعبدالكرنك، أن المقصود بالترميم هو العملية الرامية للحفاظ على الأثر، ليكون فى أقرب هيئة ممكنة لوضعه الأصلى القديم، دون أى تبديل فى طابعه الأثري، وبما يبرز قيمته الجمالية والتاريخية.
ويكشف جاد عن أنواع مختلفة لعمليات الترميم، فهناك «الترميم المعماري» الذى يتعامل مع الشق الهندسى فى الأثر. وذلك كما فى حالة معالجة الانهيارات، وأعمال التدعيم، وكل ما يتعلق بالتعامل مع الجدران والأساسات والأسقف. أما «الترميم الدقيق» ــ والحديث مازال الحديث لجاد ــ فيختص بالتعامل مع الأجزاء الخفيفة والقطاعات الخفيفة من الأثر.
ويضيف أن هناك تصنيفا موازيا لأعمال الترميم ما بين «العضوي» و»غير العضوي». والأول يختص بالتعامل مع العناصر التى تتألف من مواد عضوية مثل الأخشاب، والجلود، والمنسوجات، وبالطبع تتعلق هذه الفئة بالتعامل مع المومياوات. أما الترميم غير العضوى فيختص، بالتعامل مع الأحجار والمبانى. يقول جاد: « لذلك نقوم بدراسة علوم مختلفة بأقسام الترميم، مثل علم الجيولوجيا من أجل التعرف على أنواع الأحجار وتأثيرات العوامل البيئية المختلفة عليها. وكذلك علوم الكيمياء، نظرا لاستخدامنا مواد كيميائية فى عمليات الترميم المختلفة بداية من التنظيف، ومرورا بالتدعيم، وحتى الصيانة. كما نتطرق فى دراستنا إلى العلوم الهندسية وأسس أعمال الرفع المساحى والتقنيات الفنية للرسم».
أما عن الجهة التى تؤهل المرمم لبدء مهمته عمليا، فيوضح جاد أنه إما كلية الآثار أو معهد ترميم الآثار، مشيرا إلى توافر فرصة للراغبين فى التعرف على عوالم الترميم فى سن مبكرة بالالتحاق بمدارس الترميم الفنية فى المرحلة الثانوية، وإن كان يأسف أن هذه المدارس توجد فقط فى القاهرة.
أما مروة حسن، التى تعمل إخصائية ترميم بمعبدالكرنك وهى قرينة محمد جاد، فترى أن مرممى الآثار «أطباء للحضارة»، فهم يعيدون للأثر روحه ورونقه، مؤكدة ضرورة تحلى المرمم بكثير من الصبر والدقة. خاصة أن عمليات الترميم قد تستغرق ما بين الشهور والأعوام.
وعن مراحل العمل، توضح مروة: « نبدأ بدراسة الخلفية التاريخية للأثر وتحديد حالته وعوامل التلف المؤثرة عليه، وإجراء عدة اختبارات لتحديد المواد التى سيتم استخدامها فى الترميم، والتى تختلف على حسب طبيعة كل أثر وطبيعة العوامل البيئية التى تعرض لها. ثم تبدأ عملية تنظيف الأثر، والتى تتم على عدة خطوات، وتتضمن إجراء السيطرة على مصادر الضرر التى يتعرض لها الأثر، ثم إصلاح التلف وتنفيذ عملية التدعيم إذا ما كان الأثر فى حاجة لها».
ومثلما يقوم الطبيب بوقف نزيف الجرحى، يقوم «أطباء الحضارة» بعملية مماثلة لوقف نزيف الحجارة، التى يشرحها محمد جاد، موضحا أن المقصود بهذا التعبير، ما يتعرض له الحجر الرملى من انهيارات. فالحجر الرملي، وفقا لوصف جاد، يكون ناتجا عن تجمع حبيبات الرمال كمادة رابطة مع أحد أنواع المعادن، ونتيجة للعوامل الزمنية المختلفة، يحدث فقد للمادة الرابطة فتتحول إلى ما يشبه المسحوق. ومع تأثير العوامل الجوية، تحافظ الطبقة الخارجية على صلابتها، فيما تنهار الأجزاء الداخلية، وعند حدوث أى خدش أو كسر فى الطبقة الخارجية، تبدأ الرمال الداخلية فى الانهيار فيما يشبه النزيف، وهو الأمر الذى يتم معالجته من خلال عمليات حقن للحجر.
أما بالنسبة للمدارس المختلفة فى عمليات الترميم والتدعيم، فيوضح جاد أن جميع مدارس الترميم اتفقت أنه فى حالة وجود أثر مفكك، فإنه يتم إعادة تجميعه مرة أخرى فى نفس وضعه السابق، دون تحديث أو تغيير فى ملامحه أو وظيفته. أما المسألة الجدلية بين تلك المدارس، هى ما يتعلق بالتعامل مع الأجزاء المفقودة. فهناك مدارس تؤيد عملية استكمالها، مقابل مدارس ترفض ذلك التوجه حتى لا يفقد الأثر قيمته. وهناك مدرسة وسطية ترى بالاستكمال إذا ما كان فى ذلك وظيفة تدعيم للأثر، على أن يكون هناك اختلاف واضح بين الجزء المستكمل والجزء الأثرى. ويتم العمل وفقا لعدد من المواثيق الدولية، أبرزها ميثاق فينسيا للترميم والحفاظ على المعالم والمواقع، والصادر عام 1964.
ورغم سنوات العمل الطويلة، ما زال فى عوالم الآثار ما يبهر جاد ومروة. فترى الإخصائية الشابة أنها الألوان التى تحتفظ بها بعض القطع الأثرية رغم مرور الأزمنة عليها. فتقول: « بعض العلماء الأجانب المشاركين معنا فى مشروعات بعينها يصابون بذهول عند انتهاء مرحلة التنظيف وتبدأ الألوان فى الظهور». أما جاد، فيؤكد أنها العبقرية الهندسية للقدماء المصريين التى لم تفشل يوما فى إدهاشه، خاصة مع الدقة الشديدة فى عمليات التشييد وحتى التزيين للجدارن من حيث الحسابات الهندسية المختلفة.
رابط دائم: