رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بالكاد يعبر الشارع إلى قفزة أخــيرة
جمال القصاص: أعرف متى تستيقظ القصيدة ومتى تنام

مي الخولي

  • الشاعر ونصه كيانان يتصارعان من أجل كيان واحد هو الشعر بالنهاية
  • مازلت أقرأ المُعلقات وأحس بأن طرفة بن العبد ألصق بجلدى كثيرا مما يكتب الآن
  • على الناقد أن يجلس على مائدة المبدع ليتعلم من الفتات المتساقط منها
  • أزمة الشعر فى الشعراء أنفسهم
  • الزواج مؤسسة صعبة.. لم أحتملها
  • الشعر لم يعد يكترث بفكرة العروبة أو القومية
  • تأثرت بعفيفى مطر فى بداياتى وكنت أتصنع الغرابة مثله

 


فى ليلة شتوية، كان أناس كُثر فى بيت الشيخ عبد العزيز القصاص، مأذون قرية المنشأة الكبري، يباركون ميلاد ابنه «جمال»، وكان الشيخ يلقن أذن ابنه الأذان، فيستحسن جمال موسيقاه، ويشب قليلا فيطالع مكتبة أبيه وخزانة سجائره، إذ كان من عادة أهالى قريته أن يمنحونه كل عقد قران مع أجرته علب السجائر، فكان جمال يسرقها من خزانة أبيه ويمنحها لأصدقائه المدخنين الذين لا يجدون ثمن الدخان، وكان مقدور جمال ألا يجد نوره لا فى الخطابة كأخيه ولا فى سجائر أبيه التى تقر عين أصحابه.

تبِع نيتشه واعتبره فيلسوفه الأعظم، ثم سريعا أفل نجم الفلسفة فى روحه، وشعر بأنه بحاجة لفن أكثر تماسا مع روحه، وقلبه فى الفنون، فسحره الفن التشكيلي، إذ منحه التجريد فى الألوان والطبيعة، قدرا من بكارة الأشياء، واستمع إلى الموسيقى وكتب قصة وحيدة، ثم ما لبث أن عاد ليقول:«احتاج لفن يمد لى يد المجهول وهذه الفنون بنت الواقع»، حتى وجد ضالته فى الشعر، فتزوج قصيدته وطلق زوجتيه.

سحرته غرائبية صور عفيفى مطر فتبعها وزايد عليها حتى توقف مطر نفسه أمام إحدى صور جمال وسأله:«ماذا كنت تقصد حين قلت زعنفتنى الرؤي؟»، لكنه استطاع أن يتخلص من هذه التجربة سريعا ويبحث عن صوته الخاص، بل ينتقد الغرابة عند عفيفى مطر معتبرا أنها كانت تحتاج فى أحيان كثيرة إلى الحذف، إذ إن شعر مطر، به تراكم كبير للغرابة يجعله عبأ على النص

تكيف مع وحدته، وتعلم كيف يرتب بيته كما يرتب قصائده، وفى الليالى التى يباغته فيها حزنه يذهب إلى المطبخ يصالح حزنه ببعض من حلوى روحه، أو يذهب لاصطياد السمك والنجمات ليطعمهما ليلا قصيدته، ليكمل معجزته الصغيرة، يذهب إلى العمل ويكتب شعرا.. إنه جمال القصاص الشاعر الكبير ورئيس القسم الثقافى فى جريدة الشرق الأوسط، فإلى نص الحوار

« أنا لا أكتب القصيدة.. ولا هى تكتبني.. كلانا يفتش فى الآخر.. عن شيء ضاع منه!»، القصاص فتش فى عدة فنون قبل أن يصل إلى محطته المحببة الشعر.. فكيف أوصلتك دراسة الفلسفة والفنون التشكيلية إلى الشعر وهل وجدت الشعور بالامتلاء فى الشعر؟

الفلسفة بنت السؤال والشك، والشاعر صياد أسئلة وليس صياد إجابات، مهمته تفجير الأسئلة، لأنه ليس هناك إجابات مكتملة، أو مسلمات نهائية.

وأنا لو لم أكتب الشعر أموت، لذلك أشكر ربنا أن جعلنى شاعرا، لأن الشعر هو أسمى الفنون، من الشعر بدأت الفلسفة، وهو الفن الذى تلتقى فيه وتتضايف كل ألوان وحدوسات المعرفة الانسانية، الشعر هنا هو ذروة بلوغ الفن غايته.

الشعر هو ذروة بلوغ الفن غايته، لكن هذا هو زمن الرواية، فكيف ترى سوق الشعر الآن؟

زمن الرواية على أى أساس؟، أعتقد أنه زمن الصورة والميديا ، وليس الرواية، سوق الشعر ضيق لأنه فن صعب، محتاج لقراء نوعيين، بينما الرواية لا تحتاج لهذا حتى لو صارت على درب الخرافة والأساطير والسيرة الذاتية ، والشعر يحتاج إلى أن يكسر هذه الذائقة التقليدية فى التلقى، وهذا صعب.

دائما ما يوصف الشعر بالنخبوي، فى حين أن الشعر ينشد فى قلب الحقول حتى عُرف لكل حصاد نشيد، والأمر نفسه فى الصحراء فحتى الإبل تميزت بالحداء، ما يعنى أن ذائقة العامة تستحسن الشعر فى المطلق..فمن أين ظهر هذا الاصطلاح؟

لأن الحياة كلها كانت شعرا، الشعراء لم يكونوا يكتبون ويقرءون، ولكنهم كان ينشدون الشعر بالسليقة والفطرة ، لم يكن هناك ما يسمى بالعروض، الوجدان العام للجماعة البشرية استطاع أن يخلق نوعا من الإيقاع الخاص به، وهذا جاء من علاقة البشر بالفراغ فى الصحراء فظهر ما يسمى بالخبب والرجز، وهذا موجود أيضا بالعروض الأوروبى، كان هناك إدراك لأهمية الشعر، والقبيلة التى لم يكن لديها شاعر تفقد أهميتها، فهو بمثابة وزير الإعلام لديها، الحروب كانت تبدأ أحيانا بمبارزة شعرية، وكان الشعر هو ديوان العرب، الآن الأمور تغيرت، القارئ لم يعد يريد أن يبذل مجهودا، لكن بشكل عام ، الفن الحقيقى له بعض الجمهور، وليس مشاعا.

«الآن الوضع سخيف جدا.. شاعر وحيد أعزل.. لا يجد قصيدة يتوكأ عليها».. برأيك ما هى أزمة الشعر؟

أزمة الشعر هى الشعراء أنفسهم، لا يفهمون حاسة الشعر، يتخيلون أن الشعر مجرد رص عبارات، وإمعان فى الغرابة، لكن الشعر تكوين وبناء، الشعر يستند على العاطفة، والعاطفة بنت الانفعال والرؤى والمشاعر، الشعر ليس ضد العقل، لكن المهم ألا يسبق العقل العاطفة فى لحظة الكتابة ، يحاول الشعر من خلالها إجراء تجريد لهذا العالم، وللغة من منطقيتها شوائبها الغيرية، ليبزغ الشعر كثمرة عليا فى مناخ روحاني، ويتحول الى مرآة، وشعرية الأفكار هى ذروة شعرية، ونحن لدينا فى التصوف العربى سريالية أكبر من السريالية الأوروبية ،السريالية الأوروبية تقوم على تفكك أدغال الكلمات واللغة، ثم أنها بنت اللحظة التاريخية ما بعد الحرب العالمية الثانية ، لحظة تفسخ قاسية فى المجتمع الأوروبى ، بينما الصوفية بنت نسق وتراث.

«دائما أتذكر أن حياتى على هذه الأرض قصيدة مضطربة،محاولة لاصطياد نجمة،أدمنت الهروب من كفي،من ليلى البائس».. ما الذى يضمن أن يعاودنا الشعر وأن يزورنا الإلهام؟

هذا المقطع الشعرى خاص بالأساس بمعاناة الشاعر مع النص، وأن هذه القصيدة يمكن أن تباغتك فى لحظة وتنسكب على الورق ولا يلاحقها الشاعر، يمكن أن تخاصم الشاعر لفترات، المشكلة أن علاقة الشعر بالشاعر ليست مجانية ، بل لها شروط، والشاعر يجب أن يتوفر فيه الكثير من الشروط الصحية، بمعنى أن يرعى قصيدته كطفلة نزقة.

إذن .. كيف يرعى القصاص قصيدته؟

أنا متيقظ جدا للقصيدة، أعرف متى تستيقظ ومتى تنام، متى تستفزنى بقوة، ومتى تتوافر المساحة من اللهو واللعب بها ومعها. الشاعر ونصه كيانان يتصارعان، من أجل كيان واحد هو الشعر بالنهاية، ويجب أن يبقى هذا الجدل، مهمة الشاعر أيضا هو كيف يمرن نفسه على الصفاء الشعري، فالشعر بحاجة لمساحة براح، فأحيانا تكون هناك حالة تسكنني، وأكتبها بشكل أولى لا يرضيني، فأمنح نفسى البراح اللازم حتى أقبض على ما أريد فى لحظة الصفاء أو التجلى للذات الشعرية أو لذاتى فى الشعر.

لمن يجب أن تكون الغلبة فى الصراع بين الذات الشعرية وذات الشاعر فى النص؟

الصراع يجب أن يكون لصالح القيمة، لصالح أن يكون النص حيا، يصمد طويلا، ويصنع امتدادا فى الزمان والمكان، ولا يكون نصا عابرا ينتهى بزمن كتابته.


القصاص مع مندوبة الأهرام


وأى القصائد تصمد فى وجهة نظرك؟

الشعر الحقيقى هو القادر على أن يعطيك نفسه بشكل متجدد فى أى وقت، أنا مازلت أقرأ المعلقات وأحس أن طرفة بن العبد ألصق بجلدى من كثير مما يكتب الآن، فهو شاعر عابر للزمن.

من شريك القصاص فى مسوداته الأولى، يمكن أن يقرأ معه قصيدته قبل أن يُشهرها؟

لا أحد ، أنا أراجع نفسي، فهذا عالم خاص جدا مفاتيحه فى يدى وحدي، الشاعر نفسه فى لحظة الكتابة قد لا يدرك طبيعة العلاقات التى خلقها فى النص، وحين يبتعد عنه يراها بشكل أفضل، ثمة نوع من القراءة الداخلية لا تتم إلا بعد أن ينتهى الشاعر من قصيدته، أنا أحيانا أقرأ قصائدى وأجد صورة فيها لا أفهمها فى لحظة الكتابة، ثم بعد فترة ،وربما بالمصادفة وفى لحظة صفاء أفهمها، لأن الكتابة الشعرية بالذات يجب أن يكون الوعى واللاوعى فى سباق لمصلحة القصيدة.

كثيرا ما تخاطب المرأة فى قصائدك.. ما القصة؟

المرأة فى شعرى مجازية غالبا، ولا تحضر فى إطار علاقة خاصة إلا فى ديواني، «الإسكندرية..رباعية شعرية»، ومن «أعلى بمحاذاة الموسيقي»، ما عدا ذلك كانت المرأة من صنعي، ولم أكن أستدعيها من الفراغ، لكنها تكون علامة على حالات عابرة، وأنا أحاول جعلها مقيمة فى الشعر، المرأة عندى ترادف الخبز، والخبز يشكل صمام الأمان بالنسبة للإنسان، ويوازى إحساسه بالحرية، وأنا قروى لا تزال عالقة بذاكرتى صورة رائحة الخبز ومشهد النساء وخدودهن المكسوة بالاحمرار من أثر الجلوس أمام الفرن٫

«ليس أجمل من أن أكتب الشعر، كل يوم أتزوج قصيدتي»..هل كان الشعر سببا فى فشل زواجك مرتين؟

انفصلت مرتين ولم أشعر بأننى انفصلت حتى الآن، اعتنى بأولادى وزوجتيّ ، وعلاقتنا طيبة جدا، لكن الزواج مؤسسة صعبة جدا، حتى لو كان عن حب فإنه يتحول داخل مؤسسة الزواج إلى شيء آخر، يتحول إلى كيان له طبيعته وتقاليده وصراعاته، وأنا خارج هذا الكيان لدى علاقات طبيعية، انسحبت حينما فسدت العلاقة لأحمى هذه المؤسسة من بعيد، بدلا من الدخول فى مشاحنات بالداخل تشغلنى

«المرأة التى أحببتها.. بكيت ساعة أو ساعتين من أجلها.. قبل أن يسطو النهر على دموعي.. من يومها وهم يقيمون السدود، يدعون لتغيير المنهج».. هل كان ذلك غضبا على الحداثة؟

نعم، لأنه ليس منطقيا أن يكون هناك منهج لكتابة الشعر، فى حين أن صيرورته هى الإفلات من المنهج وكسر الإطار،النقاد هم من فعلوا ذلك، والمنهج غير صالح للشعر، الكتابة هى الإبداع، وبالتالى لا تريد متلقيا نمطيا، أنا كتبت فى إحدى قصائدي،«لابد أن تفصل بين جسد الممثلة الحسناء وفم الهواء»، باعتبار أن الهواء هو المتحرش الأول فى هذا الكون، تذكرت هذه الصورة وضحكت، صعب جدا أن يصل الناقد إلى فهم هذه الصورة، لأن الناقد ليس شريكا للشاعر فى معاناته، الناقد لديه أدوات نقدية أحيانا النص يكون فوقها، والمشكلة أن لدينا حركة نقدية هشة جدا، تدور غالبا حول المضمون لتشرح من خلاله لنص، وكل فن حقيقى له خصوصية ما، الذى صنع النقد هو الإبداع، المبدع هو الذى صنع الناقد وليس الناقد الذى يصنع المبدع، لدينا هنا فى مصر العكس، الناقد يعتقد أنه متفضل على المبدع، يقول أنا كتبت عنك .. لا بل أنا المتفضل عليك، أنا المبدع والمفروض أن تجلس حول مائدتى وتتعلم من الفتات المتساقط منها. وللأسف هناك نقاد متعالون ونقاد «دوجما» نادرا ما نجد الناقد المنفتح على النص. نعم النظريات الأدبية منفتحة على النص ولها جذور فلسفية، وهى ابنة مناخ خاص وثقافة خاصة، والناقد لدينا يريد تطبيق كل هذا على نص ابن بيئة مختلفة، لكن السؤال الأهم: لماذا نستدعى هذه النظريات الغربية فى النقد، ونحن لدينا تراثنا الذى لو فتشوا جيدا يستطيعون الخروج بنظرية أدبية عربية.

«أشتاق إلى حلمى سالم، فى إضاءة ، كنا أطفال الشعر، ولدنا على عتباته».. ما الذى تفتقده من زمن إضاءة، وهل تعتقد أن الكاتب بحاجة إلى جماعة يكون جزء منها؟

افتقد إلى الصحبة، واللغة الشفيفة التى كانت تنمو بيننا بسرعة، إضاءة قدمت لنا وبجدارة فكرة التنوع داخل الكتلة، الآن ليس الأمر هكذا، هناك نوع من التطاحن والحروب الصغيرة ليس فى الحياة الثقافية فقط ولكن فى كل المجريات، وكان هناك ضرورة لأن نكون جزءا من جماعة، الحياة الثقافية فترة السبعينيات فرضت هذا، كان هناك قحط سياسى وقهر، أصاب الحياة الثقافية فى مقتل، والشعراء خرجوا من البلاد، آنذاك شعرنا أن الشعر المصرى فى مأزق واضطراب، فخرجنا وقلنا: لسنا أبناء عاقين، لا بد أن نواصل الطريق الذى حفره الشعراء الرواد ، وأن نضخ دماء جديدة فى جسد الشعر المصرى، كنا نريد أن نكون طرفا مجادلا للثقافة الرسمية، ومعارضا أيضا، لنا صوتنا الخاص الذى نعتد به.

لديك شعور بأن شعراء السبعينيات ظُلموا؟

جيل السبعينيات هو آخر جيل شعري، من الناحية المنهجية الجيل له شروط هذه الشروط لا تتوفر إلا فى شعراء السبعينيات، نشأ هذا الجيل فى لحظة مجتمعية مصيرية، بعد هزيمة 67، كان هناك اضطراب عميق فى الهوية والوجدان العام،وهذا الحدث أثر على الحياة الثقافة وأدى إلى هجرة مبدعين كثيرين، فأسسنا كيانا أو جماعة شعرية، وتركنا أثرا جميلا، هذا الجيل ظلم من الأجيال السابقة، لم يكن هناك تقدير له، لا أحد كان يقدر المغامرة التى نقوم بها، بل كنا نتهم دائما بالغموض والاستعلاء على الواقع، ساعد على ذلك أن أدوات النقد الأدبى فى هذه الفترة كانت قاصرة على شعراء جيل الستينيات أو حركة الرواد، ولم تلتفت إلينا، لكننا كتبنا الشعر ونشرناه ودافعنا عنه واشتغلنا نقادا له، إذن هذا جيل، له ما يخصه، ما ظهر بعدنا- برأيي- هو تيارات شعرية، يمكن أن تبلور جيلا بعد ذلك، لكن الآن لا توجد علامة مميزة لجماعة يمكن اعتبارها جيلا، هم تأثروا بجيل السبعينيات، ثم ناصبوه العداء، ويحسب لجيل السبعينيات فى مصر أنه شكل الموجة الأساس فى حركة السبعينيات الشعرية فى الوطن العربي.

لكن هناك من يرى أن جيل السبعينيات تأثروا بشعراء العراق أصلا.. ما رأيك فى هذا؟

هذا ليس صحيحا، ربما البعض تأثر، أنا قرأت، وهناك شعراء كثر تأثروا بصلاح عبد الصبور، وآخرين بأحمد عبد المعطى حجازى، لكن التأثير الكبير كان لعفيفى مطر، وهناك من تأثر بالبياتي، الشاعر العراقى، لكن المدرسة البيروتية تأثيرها كان أقوى خاصة فى جماعة أصوات التى ظهرت بعدنا، مدرسة بيروت كانت أقوى تأثيرا فى القصيدة المصرية من مدرسة العراق.

اختفت المواقف القومية والأحداث مما اعتادت قصيدة التفعيلة ذكره.. فى رأيك ما الذى دفع الشعراء لذلك؟

لأن المسألة تغيرت، فالشعر لم يعد يكترث بفكرة العروبة أو القومية مثلا، الآن الشعر أصبح مضمون نفسه، كما أن قصيدة النثر الآن بها مواقف حادة جدا من الوجود، ومن السياسة.

ولمصلحة من يحسم الصراع بين قصيدة النثر والتفعيلة فى المستقبل؟

لدى إيمان أن الأشكال الفنية تتلاقح مع بعضها بعضا، سواء بشكل مباشر أو متخفٍّ. هناك شكل يسود فترة ثم يغادر ولا يموت ويأتى شكل آخر، أتصور أن قصيدة النثر إرهاصة إلى شكل ما سيتمخض عنه ما يدفع حركة الشعر العربى لتصبح أكثر انفتاحا على قضايا الوجود لأن قصيدة النثر الآن مسيَّجة بما هو ذاتى ومفتعل، والذاتى به رتابة وملل، بعض الشعراء يكتب ما بداخله كانعكاس مباشر، وقصيدة النثر ليست قصيدة مجانية، فهى أكثر صعوبة من قصيدة التفعيلة، لذلك أنا استغرب ما يحدث فى الواقع، وأن قصيدة النثر مازالت تبحث عن نفسها بعد كل هذه السنين، لكى تصل إلى الأفق المنشود، ربما أسهم فى هذه النظرة أن قصيدة النثر حققت نوعا من الموازاة بين الشعر والواقع، والشعر ينبغى أن يكون فوق الواقع.

هل هناك شاعر تعتبر يده هى من أخذتك إلى الشعر؟

انفتحت على شعر التراث كله، شعر عفيفى مطر وأدونيس وأحمد عبد المعطى وصلاح عبد الصبور وهؤلاء هم الخميرة الأولى فى حياتى الشعرية، وأنا محظوظ أن صادقتهم، وعملت مع معظمهم.

وماذا تقول فى انك استبدلت نهر عفيفى مطر ببحرك؟

تأثرت بعفيفى مطر بشكل أساسى لأن عفيفى مطر كان يقلق حواسى الشعرية، أذكر أننى كتبت فى قصيدة بدأتها: «زعنفتنى الرؤى »، وحين التقيت مطر فى كفر الشيخ، سألني:«يعنى ايه زعنفتنى الرؤى؟» كنت أتصنع الغرابة كما يفعل مطر، لكن بعد فترة قصيرة استطعت بسرعة أن انفصل عن هذه التجربة، وأبحث عن صوتى الخاص، بعد أن استفدت من الغرابة الشعرية والعلاقات ذات الثمرة الجمالية الواخزة، فى شعر مطر وآخرين، وإن كانت الغرابة عند مطر، لم تنجُ من التراكم الصورى والدلالى والذى يشكل عبئا على النص، لكن فى النهاية شعر مطر فى رأيى سيبقى مؤثرا لفترة طويلة لأنه ربط الشعر بطفولة الأشياء وبالطبيعة.

كيف تقيم الحالة الثقافية الراهنة ؟

الثقافة المصرية، ليست ثقافة حوارية، هى ثقافة اتباعية، حتى بين الأشكال الأدبية نفسها، لا يوجد نقاش حقيقى لقضاياها على مستوى الإبداع والنقد، وأيضا على مستوى المؤسسة الثقافية الرسمية ، لا يوجد مؤتمر خاص للمثقفين المصريين يتدارسون مشكلات ثقافتهم ويتحاورون حولها بحرية وموضوعية، ويضعون الحلول والبدائل ، لا يوجد مكان لائق يحتويهم ويخفف عنهم أعباء الحياة، المؤسسة الثقافية الرسمية تحتفى بالموتى لا مكان للأحياء، المؤتمرات والمهرجانات موسمية ومناسباتية، هناك لجان بالمجلس الأعلى للثقافة يجب أن تُحل لأنه لا قيمة لها ولا معني، بل يجب أن يعاد صياغة هذا المجلس بروح ودماء جديدة، الفن لا وصاية عليه، لا يحتاج لمجلس تُرص فيه الكراسى، ويتبارى أعضاؤه فى الحفاظ عليها بشتى الطرق .

« يجب أن يستريح الشاعر.. يذهب أبعد من اللغة من الشعر.. لا يكلم أحدا هنا أو هناك».. هل تعتقد أن الشاعر أو الكاتب بحاجة إلى العزلة أو الابتعاد عن المجال العام؟

طبعا، لحظة الكتابة لها طقوسها، كنت أكتب على ورق أبيض «دشت»، لا أحب الورق المسطر، وكنت أخبئ الورقة المكتوبة عن عينى ، حتى لا أقرأها وتعرقل ميلاد الورقة الجديدة، وحين أفرغ من الكتابة تماما، أقرأ كل ما كتبته وأراجعه بدقة وقسوة أحيانا، حتى يمكننى أن أواصل عملية الكتابة، الكتابة طقس يحتاج إلى العزلة، لأن الكاتب فى هذه اللحظة يكون فى مواجهة العالم والأشياء وفى مواجهة ذاته هو، والشاعر يحتاج إلى أن ينصت لنفسه حتى وسط الزحام.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق