حكايات أكتوبر ..«الكنز» الذى يحتفظ به لأولاده
٤٨ عاما لم تُفقِدها جلالها أو هيبتها، حرب أكتوبر التى تحتفظ بمكانها ومكانتها فى الوجدان، كمصدر فخر وفرحة فى قلب كل مصرى، شارك أو لم يشارك فى جلب النصر وردّ الأرض.
ولكن سيبقى لأبطال ورجال أكتوبر، النصيب والحق الأكبر من حالة الاحتفاء والتقدير بالانتصار العظيم الذى تحقق.
ولأن ذكرى النصر تستوجب دائماً البحث عن حكايات وأسرار تلك الأيام، وتستهدف محاولة التعبير عن تقدير كل من شارك مهما كان دوره أو مهمته، الشهيد منهم والحى، فإن «الأهرام» اختارت أن تستمع إلى رواية «الشهيد الحي» الذى قضى أيام النكسة وذاق مرارتها، وعاش فرحة الانتصار ورد الاعتبار، وشاء القدر أن يشهد «عزاءً» أقيم لروحه.
المهندس الزراعى سعد حسن عيسى، مواليد قرية طه شبرا محافظة المنوفية، المحارب الذى يبلغ من العمر الآن ٧٧ عاما، لم تستطع التأثير على ذاكرته أو ذكرياته، ولكن شاركه «محمود» الابن الأصغر الحديث، رغبة فى تفريغ شحنة وطنية كبيرة حفظها بداخله من كل ما أملاه عليه والده لسنوات طويلة، تلك الأحداث التى عادت بالزمن، حتى أصبح عمر «سعد» ٢٩ عاماً، والحديث على لسان «محمود»: (كان والدى من المعفيين من التجنيد قبل عام ١٩٦٧، نظراً لالتحاقه وتعيينه بمشروع الإصلاح الزراعى، والذى كان مشروعاً قومياً آنذاك، وبعد النكسة وبالتحديد فى عام ١٩٦٨، تم استدعاءه لصفوف الجيش لتأدية الخدمة العسكرية).
يوم السادس من أكتوبر، الذى لم يكن يعلم عنه «محمود» سوى أنه اليوم الذى يحصل فيه على إجازة من المدرسة «علشان كسبنا إسرائيل فى الحرب» _على حد تفكيره بالأمر_ بات بمرور السنوات ونضج الفكر، يوماً مميزاً مخصصاً لذكريات أصعب وأجمل ما مضى من العمر.
يقول إن مشاعر الطفولة وحدها لم تكن سيدة الموقف، بل كان هناك شيء ما ينبعث من الداخل ويعلن عن نفسه وسط كل ذلك، يتلخص فى شعور مسيطر، «أنا فخور إنى مصري»، تلك العبارة التى ترجمها عقله وقلبه وإحساسه بالمشاركة فى تحقيق الانتصار، لمجرد مشاهدة مجموعة من الأفلام التى يتم عرضها فى ذكرى حرب أكتوبر، خاصة التى توثق مشاهد العبور ورفع العلم المصرى، ولم تكن تفارق ذهنه أبداً.
لتتبدل كل المشاعر والأفكار والانطباعات التى تدور بداخله، بعد أمنية بسيطة عبَّر عنها لوالدته: «ماما أنا نفسى أكبر بسرعة وأروح الحرب زيهم»، لينتفض والده داعياً: «ربنا ما يكتبها عليكم يا ابنى لا أنت ولا اخواتك ولا مصر كلها من تاني»، الأمر الذى لم يستطع عقله الصغير استيعابه متسائلاً (كيف لأبى أن يدعو بعدم المشاركة فى إعادة البطولة والانتصار؟!).
ليبدأ الأب فى قص حكايات الحرب التى رواها لأول مرة، بنبرة لا تتمكن من كتمان الدمع قائلاً «الحرب صعبة، الحرب مش بس لحظة الانتصار اللى شفتها وأدركتها بعد كده والأفراح والزغاريد دى، الحرب كانت نتيجة لسنين انكسار، فى وقت عدت أيام مش معروف لها آخر والمستقبل مجهول».
لم يبدأ «سعد» حكايته من لحظة الانتصار التى شعر أنها أكثر ما جذب ابنه فى الحدث، بل أراد أن يعود به إلى البداية، إلى اللحظات العصيبة التى مرت عليهم، خاصة وأن جزءا من خطة الخداع الاستراتيجى، استهدفت فقدان الجميع لأى أمل فى الحرب مع إسرائيل، بخلاف نظرات اللوم وبعض كلمات السخرية من كل من يرتدى «الميري» ويسير فى الشارع بعد النكسة.
الحرب التى كان يراها الابن انتصاراً واحتفالاً، وجد أنها أصوات مدافع مرعبة تمر من كل مكان، وموت يحيط بالجميع من كل جانب، وفقدان لأصدقاء وأحباب، وأرواح يحملها أصحابها على الكفوف بشجاعة، لا يشغلهم سوى تحقيق النصر وردّ الحق، ليصل به إلى نتيجة واحدة أصر على أن يحفظها ابنه الأصغر عن ظهر قلب، لتنمو وتكبر معه وهى «الحرب صحيح انتهت بالانتصار، لكن عمره ما كان انتصارا بسيطا أو سهلا».
ليستكمل الأب حكاياته عن الأيام الصعبة التى انتهت بمكافأة ربانية «انتصار عظيم»، تحدث عن سنوات النكسة التى لم يكن يعلم أى منهم موعد انتهائها، أو هل هناك ما يتم التخطيط له لردها، وعن الظروف الأسرية التى مرت عليهم أثناء هذه الفترة بلا حول لهم ولا قوة، سوى الانتظار ومتابعة ما يجرى عن بُعد، ومن مرض أصاب الأب أو الأم ولم يجد بجواره ابنه الذى يرعاه أو ابن رضيع لم يتمكن أبوه من حفظ ملامح وجهه، بسبب قضاء أيام معدودة معه ثم الرحيل عنه لأجل غير مسمى، ومن كان على وشك الانتقال لعش الزوجية وبات الأمر مؤجلاً لوقت غير معلوم.
كان «سعد» أحد جنود سلاح المدرعات، وخدمته باللواء ٢٣ مدرع بالهايكستب، لم يكن ضمن الصفوف الأولى وقت الحرب، ولكن من قوات النسق الثانى الذى شارك فى خطة تطوير الهجوم من يوم ١٠ أكتوبر، كما كان ضمن القوات التى شاركت فى سد ثغرة الدفرسوار.
حكايات نقلت «محمود» من عالم الأفلام ومشاهد الحرب المنسقة بمونتاج وإخراج سينمائى، إلى حقائق بات ينتظرها كل عام فى نفس الموعد، للاستماع لها مراراً وتكراراً دون ملل، بل كان يشعر فى كل مرة أنها الأولى، منتظراً بشغف استكمال القصة وتحقيق النصر.
«رامى مقذوفات» كانت هذه هى مهمة «سعد» التى يفخر بها ويشرح وظيفتها لابنه، موضحاً له أن الدبابة يعمل عليها «السائق» و»المعمر» الذى يضع القذيفة، وهناك القناص الذى يضبط الزوايا ويحدد الهدف.
يقول «محمود»: (كان أبى هذا الرامى الذى يقف منتبهاً يقظاً حتى يسمع الأمر «إضرب»، فيصيح «بسم الله» ويقوم بضرب القذيفة، وعندما تصيب القذيفة الهدف، يهلل الجميع «الله أكبر»، وهكذا مع كل قذيفة).
«انت ضربت ايه يا بابا؟» كان هذا السؤال المنطقى والمتوقع الذى بادر به «محمود»، فكان جواب الأب: «مبانى جواها قوات للعدو، مدرعات ودبابات وعربات وأهداف أخرى» مؤكداً أنهم شاهدوا نتاج تعبهم أمام أعينهم فى استغاثة وفرار قوات العدو.
ويشير إلى أن الأمر لم يكن بهذه السهولة، بل تعرضت الدبابة أيضاً لقذيفة مضادة، ونجا «سعد» الذى وصل إلى الإسماعيلية سيراً على الأقدام للوصول إلى أقرب وحدة، هو ومجموعة كتب الله لهم النجاة، مؤكداً أن أصوات المدافع وترديد «الله أكبر»، كانت الدافع الوحيد وسط مشاهد الموت التى أحاطت بهم من كل مكان.
ومن بين الذكريات الصعبة التى لا تفارقه، مشهد «فكرى عبد الحميد» الجندى الذى كان يبحث عن أى طعام، بعد انقطاعهم عن خطوط الإمداد والتموين لساعات طويلة، قاوم فيها التعب والهلاك حتى وصلوا للقصاصين، واستعادوا أماكنهم وأصروا على العودة ضمن القوات، لاستكمال الحرب بين زملائهم.
«إحنا خلاص بقينا فى قلب سيناء» هذه العبارة التى أثلجت الصدور وأراحت النفوس والقلوب واشتدت بها العزائم، قالها «سعد» بصوت ينبعث منه الطمأنينة والراحة، مؤكداً أنهم تناسوا أى ألم بعد العبور وتحقيق الانتصار الذى أزال مرارة الانكسار، وبعد انتهاء الكابوس الذى ظل يطارد مصر كلها.
قرار وقف إطلاق النار كان بداية النهاية، حيث بدأت القوات فى التمركز حسب الخطط والأوامر، تلك اللحظة التى بدأوا بعدها فى التفكير فى الأهل وأحوال البلد بعد تحقيق النصر، فلم يكن أى منهم يفكر فى شيء، سوى الثأر والعبور والدفاع عن أرض مصر، حتى لو كلفه الأمر روحه.
وكغيره لم يكن سعد يدرى شيئاً عن أسرته، فلا يصله عن أمه أو إخوته أى أخبار، ولم يفكر حتى فى موعد العودة، حتى جاء شخص يدعى «ممدوح مهدي» إلى الوحدة، وطلب منه سرعة النزول للبلد، حيث أخبره أنهم «خدوا عزاه بعد أن وصلهم خبر استشهاده»، هذا الاستثناء الذى جعل القائد يوافق على تصريح إجازة لطمأنة الأهل.
وفى مشهد رأى فيه «سعد» ردود أفعال مغايرة تماماً لما كانت عليه الأحوال بعد النكسة، حين شعر بفيض من الحب والتقدير لبدلته الميرى قائلاً: «كان ناقص يشيلونى من على الأرض، كان كل كلامهم اتفضل يا بطل، الله يحميك يا بطل، ربنا ينصركم».
ليصل أخيراً إلى والدته، التى اكتست بالسواد حزناً على الشهيد، ليتحول العزاء إلى «فرح» حضره الأهل والجيران والأصدقاء، احتفاءً بالشهيد الحي.
حكايات رواها «سعد» بمزيج من الابتسام والبكاء، لم تفقد يوماً بريقها، تحتفظ بها ذاكرته، التى تأبى نسيان ملحمة أكتوبر مهما مضى من العمر.
رابط دائم: