رسالتى إليك بخصوص أمى، فالمفروض أنها «نبع الحنان» ولكنها بالنسبة لى «نبع الأحزان».. نعم ـ يا سيدى ـ فأنا إنسانة مبتلاة طول عمرى، ومنذ ولادتى بعدم مبالاة أمى التى أهملت تطعيمى، فأصبت بشلل الأطفال، وعانيت مرارات كثيرة بسبب إعاقتى، ولم تشعر أمى بتقصيرها فى حقى، وأنها السبب فى معاناتى، وقد نال كل واحد من أخوتى كل الاهتمام والحب إلا أنا، فقد تجاهلتنى فى كل شىء، حتى حينما تزوجت لم تهتم بجهازى مثل أخواتى، وكأنى ليس لى حق مثلهن حتى فى «المواسم» التى يرسلها الأهل عادة لبناتهم، لم يكن لى نصيب فيها مثل أخواتى.
إن زوجى رجل طيب، ويساندنى فى كل أمورى، وأنجبت أبنائى، وفرحت بهم، وعوضنى الله عما عانيته، ولكن أمى لم تتغير، ولم تقدّر ما قاسيته من أهوال ومرض ومتاعب تنوء بحملها الجبال بسببها، وليس بسبب أحد غيرها.. تصوّر أننى احتجت إلى مبلغ من المال، فعرض أبى أن يقرضنى إياه، ولكنها رفضت، واشترت أثاث بيتى، ووجدتنى وأبنائى وزوجى فى الشارع، ولم يرق قلبها، واضطرننا إلى الإقامة فى مسكن يشبه «الخرابة» بدون مبالغة، وحين شكوت من الفئران والحيات فى المكان، كانت مساعدة أهلى لى عبارة عن قطة لكى تهاجمهم وتبعدهم عنا.
وبعد عذاب رق قلب المسئولين لظروفنا، وحصلنا على شقة من شقق المحافظة، ولكن العذاب ظل يلازمنى، حيث أصبت فى حادث سيارة بإعاقة فوق إعاقتى، وواجهت أزمة صحية استمرت عامين، وتعافيت بعض الشىء، وانتقلنا إلى شقة أخرى أفضل حالا من الشقة التى كنا فيها.. لكنى ظللت محرومة من حنان وعطف الأم سواء من ناحيتى، أو من ناحية أم زوجى، فارتباط زوجى بمعاقة مثلى كان بالنسبة لها مصيبة، وقد أعطيها العذر، لأن أى أم تريد لابنها «ملكة جمال العالم»، ولا تفكر فيما إذا كان زواجهما ناجحا أو لا؟.
لقد أصبت منذ ثلاث سنوات بورم فطرى بالمخ، وخضعت لعدة عمليات جراحية، ولم تزرنى أمى فى المستشفى، وفشلت عدة عمليات فى المستشفى الحكومى الذى دخلته، ولم يكن أمامى حل سوى مستشفى خاص، وطلبت من أهلى مبلغا من المال، ولكن لا حياة لمن تنادى.. إننى فى الوقت الذى كنت أبحث فيه عمن يقرضنى مبلغ الجراحة المطلوبة، كانت أمى تتردد على محلات الصاغة لشراء الذهب والمجوهرات، أما عن أشقائى الرجال، فلا تعنيهم البنات، وكأن البنت ليس لها حق فى الرعاية، ولا الحنان، ولا أى شىء.. وقد تعرضت للموت فى أثناء الجراحة، وطلبت من زوجى نقلى إلى المنزل لأموت وسط أبنائى، وعرفت أمى بما حدث، ومع ذلك لم تحضر لزيارتى، وظلت فى بيتها تنتظر خبر وفاتى.
وكتب الله لى الشفاء، ومرت الأزمة الصحية بسلام، وحين عاتبتها قالت إن أخوتى هم الذين رفضوا أن تزورنى.. يا الله أين الأمومة؟، وأين وجع القلب على الابنة وأولادها؟.. أين الشعور اللاإرادى بالجرى على فلذة الكبد؟، بل وأين حتى «النظرة الأخيرة»؟.. بجد تعبت، أدرك جيدا أنه لا جدوى من الكلام، وأدعو الله أن يهون علىّ عذاب الحرمان من كل شىء جميل تقدمه كل أم لابنتها.. والسؤال الذى يحيرنى: لم لا تشعر أمى بما تفعله معى وإهمالها لى منذ طفولتى، وإصابتى بشلل الأطفال؟، ولماذا لم تعوضنى عن تقصيرها فى حقى؟.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
الواجب ألا يفرق الآباء والأمهات بين الأبناء، سواء فى تعاملهم معهم أو فى عطاياهم أو ردود أفعالهم، لكن الواقع يشير إلى أن هناك الكثيرين ممن يميزون بين أبنائهم وبناتهم، وللأسف فإن هناك من يجاهر بهذا التفضيل، مما ينتج عنه الكثير من الآثار السلبية التى لم يكن يحسب لها أى حساب، والتى قد لا تظهر على السطح إلا فى المستقبل، فالتفرقة من أهم مسببات الانحرافات النفسية، لأنها تولد الأحقاد، وتسبب الخوف والحياء والانطواء، وليس ذلك فقط بل هى من أهم مسببات الغيرة والحسد والكراهية بين الإخوة، وقد يصل الأمر إلى كراهية الأبناء آباءهم وأمهاتهم، ومن ثم عقوقهم، أو قطيعة رحمهم، وبذلك تتقطع روابط التواصل الأسرى.. وقد تمتد جذور هذا التباغض والقطيعة عبر الأجيال، والأجدر بالآباء أن يتنبهوا لضرورة التوازن فى تربية أبنائهم، وأن يتقوا الله فيهم, فيعدلوا بينهم فى تربيتهم ومحبتهم، ويظهروا لهم العدل وعدم التفريق أو التمييز فى الحب والمعاملة حتى وإن كان لديهم من الأبناء من يجبرهم ببره وحسن معاملته على تمييزه عن أخوته.
إن القلوب تتقلب والمشاعر تتبدل من وقت لآخر، ومن الطبيعى أن يكون لكل ابن من الأبناء خصوصية مختلفة عن الآخرين تزيد وتنقص مع الوقت وتبعا للأحداث، وعلى قدر الخصوصية التى يتمتع بها تكون المحبة والتفضيل، وهناك من لا يستطيع التحكم فى مشاعره، سواء فى إظهارها أو إخفائها، وقد تكون والدتك من هذا النوع وهذا خطأ، ولكن ينبغى ألا تعالجى الخطأ بخطأ أكبر منه فتقعى فى براثن الغيرة والعقد النفسية وتسوء علاقتك مع نفسك وأخوتك ووالدتك.
وضعى فى اعتبارك أن طريقة معاملة الأبناء لوالديهم وبرهم بهما تلعب دورا كبيرا فى اختلاف مشاعر الآباء تجاههم، فمن يجاهد نفسه ويحرص على الإحسان لوالديه سيقابل فى الغالب بالإحسان المضاعف، فإن حدث العكس وقوبل من يبذل الإحسان بالإساءة، فهذا فى الغالب دليل على محبة الله لمن بذل الإحسان وابتلاء منه سبحانه وتعالى له، ليصبر ويتحمل فيزيده الله رفعة، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وقد تكرر ذلك معك كثيرا، حين تزوجت برجل فاضل، وحين تحسنت ظروفك المادية، ثم نجاك الله من المرض مرات عديدة، فهذه النعم تعويض من الله لك.
لقد أخطأت أمك فى حقك ـ فى حدود ما ذكرتيه من وقائع ـ لكنى لا أتصور أنها أهملت علاجك متعمدة، وربما تكون قد غفلت عن موعد جرعات تطعيم المواليد ضد شلل الأطفال، أو أن ظروفا حالت وقتها دون استكمالها لك، فلا تدعى هذا الهاجس يسيطر عليك.
ويمكنك البحث عن الأسباب الحقيقية التى تجعل والدتك تفرق فى المعاملة بينك وبين أخوتك وتعاملك بهذه الطريقة، مثل: هل طباع أخوتك متوافقة معها وأنت العكس؟..
وأحيانا يكون التفضيل نتيجة تميز أخوتك لأى سبب، فبعض الأبناء يجبرون الآباء والأمهات على تفضيلهِم عن أخواتهم بطاعتهم لهم وأسلوبهم الهادئ فى التعامل، أو لحرصهم على الوالدين وتحمل المسئولية فى الأمور التى تُسند إليهم، أو غير ذلك، فكما تعرفين أن النفس البشرية مجبولة على حب من يحسن إليها، وبذلك يكون التفضيل والميل عادة للابن البار من وجهة نظرهم.
وقد لا يتعدى الأمر وجود تكيف وجدانى وتوافق نفسى بين والدتك وأخوتك، حيث يشتركون معها فى طريقة التفكير والمفاهيم وغيرها، لذا فإن ميولها إليهم ميول طبيعية، وقد تكون ميولا مؤقتة حسب حاجتها النفسية لهم، ولكن قناعتك بأن والدتك تفضلهم عنك، جعلتك تتصورين أنك الطرف المهمل ومن ثمّ تعيشين فى هذه الدوامة.
إننى لا أبرر صنيع أمك معك، فهو مرفوض تماما، ولكنى ألتمس لها بعض الأسباب التى تكون غائبة عنك، وعنها أيضا.. ولا أدرى ما الذى دفع أخوتك إلى منعها من زيارتك فى المستشفى، ولماذا استجابت لهم؟، فالواضح أنه توجد رواسب نفسية بينكم، وأرجو أن تستغلى الفترات التى لا تكون والدتك واقعة فيها تحت تأثير موقف ما، لتجلسى معها جلسة حوار هادئة وتناقشيها فى هذا الموضوع بكل صراحة، وعليك أن تختارى الوقت التى تكون فيه هادئة وعلى استعداد للاستماع إليك، ومناقشة الأمر معك، وأرجو أن تتحدثى معها بأدب واحترام وبأسلوب هيّن ليّن، وابدئى حديثك معها بأن تخبريها بأنك متأكدة من حبها لك، وحرصها عليكم جميعا.. وأكدى حبك لها ولأخوتك وحرصك عليهم، وتجنبى العصبية والصوت العالى أو العبارات الحادة المستفزة، وأخبريها بمكنون صدرك، ودعيها تتأثر، وارتمى فى أحضانها، واطلبى منها الحب والحنان، واسأليها عن سلوكياتك الإيجابية التى تحبها، وسلوكياتك السلبية التى لا تحبها, ودعيها تبيّن لك ما هى نقاط ضعفك وسلبياتك من وجهة نظرها التى تجعلها تعاملك بهذه الطريقة، وكيفية إصلاح هذه السلبيات.. واطلبى منها أن تساعدك على إصلاحها، وابدئى بالفعل فى تغييرها.. إن الحل قائم بإذن الله، بشرط أن تزيلى ما علق بذاكرتك من سلبيات تجاهها، وتجاه أخوتك، وبقليل من الصبر تتحسن الأحوال.
رابط دائم: