فى إحدى المسرحيات الكلاسيكية القديمة فقد الممثل ليفيوس انردونيكس صوته خلال أدائه لدوره فاضطر أن يستخدم الإيماءات والإشارات بدلا من الحوار حتى نهاية العرض.. لم يكن يعلم وقتها أن هذا الحادث سيجعله أول ممثل فى العهد الرومانى يؤدى عرضا مسرحيا بلغة «المايم».. ومن يومها ظهر فن المايم أو التمثيل الصامت وأخذ فى التطور على مر العصور جنبا إلى جنب مع فن البانتومايم الذى يعتمد فيه الممثل على الأداء الصامت بارتداء القناع أو الماكياج الأبيض.. وعلى الرغم من انتشار هذا النوع المسرحى إلا انه يظل قليلا فى مصر بسبب صعوبته وقلة محترفيه واستسهال كثير من المخرجين فى تقديم العروض المنطوقة..
ولكن بجرأة شديدة اقتحم المخرج الشاب محمد عبدالله هذا العالم فى أول تجربة إخراجية له بتقديم عرض مسرحى كامل بتقنية المايم أو التمثيل الصامت على مسرح الهناجر وتحت عنوان «هلاوس».. يتناول العرض قصة مؤلف مسرحى تتصارع أفكاره خلال كتابته عملا جديدا يدور حول فرقة مسرحية تقرر تجسيد عرض تاجر البندقية لوليم شكسبير.. وحين تنضم للفرقة ممثلة جميلة يقع فى حبها شابان من الفرقة ويتصارعان عليها.. وتدور أحداث العرض متأرجحة بين صراعات أبطال الفرقة وأحداث عرض شكسبير طوال ساعة كاملة من خلال التمثيل الصامت بدلا من الحوار المنطوق.. وهى فكرة جاذبة بذل فيها الممثلون جهدا كبيرا لتوظيف أجسادهم وإيماءاتهم بدلا من الحوار التقليدى.. بينما غفل المخرج العديد من الأمور البديهية التى تسهل تواصله مع الجمهور بل بدا كأنه يتعمد تعقيد الأمور على نفسه بلا داع ـــ رغم يقينى بصدق نواياه فى تقديم عمل مختلف ومبتكر وغير تقليدى ــ منها مثلا بناء العرض على فكرة المايم من الأساس وافتقاده بديهيات دراسة الحركة من خلال العلاقة بين الكتلة والفراغ وتشتيت نظر وذهن المتلقى بحركة مسرحية فى أكثر من مكان على المسرح فى ذات الوقت دون إدراك أن لغة المايم تحتاج تركيزا شديدا للتواصل معها.. والخلط بين المايم الجسدى المعتمد على مزيد من الحرية فى تجسيد مفردات الطبيعة مثلا والمايم الموضوعى فى تصوير الشخصيات وهو ما نتج عنه تشوش دلالات الإيماءات طوال العرض باستثناء مشهدين مهمين، الأول مشهد مصطفى حزين خلال عناقه للمعطف عوضا عن حبيبته واستغلاله الأمثل لأدوات جسده لتوصيل حالة الولع وعذاب المحبين فى توافق عضلى عصبى مدروس لعلاقة الكتلة والفراغ.. والثانى هو مشهد محاكمة التاجر اليهودى شايلوك من خلال تقنية المسرح الأسود بحرفية شديدة.. وفيما عدا ذلك فقد العرض تواصله مع المتلقى.. بدءا من عجز المخرج عن توصيل شبكة العلاقات بين الشخصيات طوال 15 دقيقة من عمر العرض ولجوئه لاستخدام كلمات حوارية غير مفهومة ولا علاقة لها بفن المايم لتعويض صعوبة توصيل المعلومة للمتلقى.. وما تلاه من غياب منطق فكرة الربط الدرامى بين صراع الممثلين على زميلتهم المستجدة وبين أحداث عرض تاجر البندقية وصراع المرابى لتحصيل دينه.. وهو ما زاد من تيه المتلقى مع الأحداث خاصة وان هناك سؤالا بديهيا لم يسأله المخرج لنفسه قبل تنفيذ رؤيته وهو: كم فردا من الجمهور غير المتخصص يعرف جيدا قصة نص تاجر البندقية حتى يستطيع أن يتواصل مع عرض يقدم أحداثا لقصتين متداخلتين بتقنية الأداء الصامت ويدرك جيدا أنك اخترت المشاهد الأساسية فى عرض شكسبير اختزالا للوقت؟!
وفى ظنى أن المخرج أهدر قدرات ممثل مايم محترف وموهوب مثل مصطفى حزين ولم يستغلها فى بناء رؤية عرضه بالشكل الأمثل.. بينما وضع باقى الممثلين فى خانة الأداء أحادى الوتيرة أو «المونو تون» نظرا لتشتت الفكرة فى ذهنه.. ويبقى للمخرج شادى سرور مدير مركز الهناجر للفنون فضل تحمسه لتقديم مثل تلك التجارب لفنون افتقدناها طويلا وعدم بخله بالنصح والإمكانات لإنتاجها.. فهى خطوة مهمة تدفعنى لدعوته إلى استكمال سلسلة الورش التى بدأها بالفعل، بإقامة ورشة متخصصة فى فن المايم والبانتومايم ينتج عنها عرض أكثر نضجا.
رابط دائم: