رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

اللقطة الاخيرة لذى الرمة

أحمد بشير العيلة;

سحب ظله الطويل على الأرصفة المبللة فى ساعات الضحى الشتوى فى تلك المدينة التى أزهق عمره كله فيها حتى خُيّل إليه أنها وطنه والآن يشعر أنها تابوتٌ كبير له ولعمره ولأحلامه.. لكن حسين صنع الله لا تأتيه الذاكرة إلا بريقاً مفاجئاً فى ظلمة النسيان، يتصبب عرقاً حين يأتيه فيحاول جاهداً أن ينشل مشهداً أو أكثر من بئرٍ عميقة النسيان، إنه يفقد ذاكرته، بل عقله معظم الوقت، لذلك هو لا يعرف مَن هو إلا حين يباغته البريق اليتيم، تماماً كما كانت تباغته تلك الومضة السحرية الربانية التى يكتب من على فتيل وهجها قصيدة أو مقالةً أو قصة، لا أحد يصدق أن هذا المهلهل الرث الكئيب الأشعث ذا الظل الطويل هو شاعرٌ كبير، أقصد؛ كان شاعراً كبيراً تحتفى به القاعات منذ أكثر من عشرين عاماً، لا أحد يعرفه الآن إلا بأبى فردة، فقد كان يلبس فى العادة فردة حذاءٍ واحدة، نسى أختها فى مكانٍ ما، وإن تصادف أن كلّمه أحد حين يباغته ذاك البريق يعترف لمحدثه فوراً أنه شاعر، فيهزأ عليه وينعته بذى الرمة، وقد كثرت الأسماء والنعوت على الرجل، وعشعشت عليه كما تعشعش الغربان القذرة على أغصان شجرةٍ ميتة.

>>>

كان حسين صنع الله مستور الحال فى أسرة صغيرة من زوجة وولدين فى شقة بالإيجار فى وسط المدينة، ما تنفك تفرغ فيها غرفة استقبال الضيوف حتى يأتى آخرون، وإن خرج لا بد وأن يكون حوله الرهط والصحب يتبارزون فى محادثته طمعاً فى سماع قفشةٍ أو تعليقً ساخر أو كلمة تجعلهم يبتهجون ويقهقهون.. تزوج الولدان بل هاجرا متباعدين إلى قارتين مختلفتين أوروبا وأمريكا، تراكم الحزن فى داخل الشاعر حتى أصاب العظم، وحين توفيت زوجته استحال الحزن إلى نصلٍ أصاب أوردة القلب، فانبعث من داخله دخانٌ أسود دخل إلى خلايا الدماغ حتى اسودت الذاكرة، فخرج مختنقاً إلى شوارع المدينة يجر ظلاً طويلاً يدوسه العابرون بين ضفتى الطريق، وكم جلس القرفصاء إذا اشتد به الجوع بجوار مخبزٍ أو مطعم ليقتات من فتاتٍ هنا وصدقةٍ هناك، وحين يفاجئه البريق يأوى إلى جذع نخلةٍ فى الشارع ويذرف الدمع لأنه يعرف للحظات مَن هو؟

>>>

يحيى ظافر.. رجلٌ سبعينى أنيق، رفيع البنية، يلبس عادة لباساً يشبه اللباس العسكرى، واضعاً نظاراتٍ شمسية تقليدية من نوع ريبان ذات ذراعين رفيعتين ذهبيتين، يمضى عادةً من أمام كومة أبى فردة أو ذى الرمة؛ سيان، فلا أحد يعرف أنه حسين صنع الله، الكبار ماتوا أو رحلوا والصغار لا يقرأون ولا ينتمون ولا يهمهم أن يعرفوا من هذه الكومة أو هذا الحطام، لكن ذات صباح، أثار الفضول يحيى ظافر، بحكم وظيفته العتيقة كمخبر، اشترى خبزاً ونظر إلى أطلال الرجل، بل هبط إليه ليدقق فى وجهه.

- ماذا؟ أنتَ حسين صنع الله، الشاعر المعروف؟

لم يرد الشاعر، فرأسه المُطأطأ غاطسٌ فى ظلام النسيان، وكأنه لم يسمع، بل هو بالفعل لم يسمع، وكيف يسمع أو يدرك من لا ذاكرة له؟!

قام يحيى ظافر من جلسته، وأحاسيس تنمو داخله بسرعة حتى تسارع نفسه، واتجه بسرعة إلى أقرب مقهى ليجلس تائهاً تعِباً من الذكريات التى تتدفق مثل سيلٍ يجرف أمنه وأمانه واستقراره، سحب قدميه زائداً العبء على العكاز المعدنى، ومضى بظلٍ قصيرٍ يزيد من تثاقله، رمى نفسه على أقرب كرسى، ارتعشت يداه، خاف على نفسه، أشار للنادل أن يأتيه بكوب ماء، شرب رشفة صغيرة أعادت قليلاً من توازنه وتدافعت داخله مشاهد قديمة لحسين صنع الله الرجل المثقف معتدل القامة الذى كُلّف ذاك الزمان بمتابعته متابعة دقيقة، بل إن كل ملف الرجل تملّكه يحيى المخبر، حتى أنه جمع كل ما كتبَ حسين وكل ما كُتِب عن حُسين، ليدقق فيه باحثاً عن ثغرةٍ ما، ومُؤَوِلاً كلماتٍ وأسطراً وفقراتٍ وفصولاً وأبواباً، كان ظلاً لحسين، وحين وجد تأويلاً ثقيل العيار، كان لابد من الواقعة:

>>>

ــ انهض يا خائن.. كان صوت يحيى ظافر أجش عالياً وهو يستجوِب ويسب وينهر جذع الشاعر المكسور على أرض غرفة التحقيق.

- هل تعرف معنى ما كتبت؟، إنك تتكلم عن الحرية عن الثورة، ألا تعرف أنك تحرض الشارع يا شاعر، هيء هيء، يا شاعر.. قم فيرفعه بيديه ويلكمه بقوة فيسقط مرة أخرى.

- أنظر ها هى كتبك ومؤلفاتك محبوسة هنا فى هذا الصندوق الخشبى، لن تعرف الحرية، بل سأحبس معها كلمات الثورة والحرية.

- قضى حسين صنع الله سنين ثمانى فى السجن، وبعدها خرج رجلاً عادياً لا أحلام له، يتعمد الابتعاد عن الكتب والناس والمكتبات التى فرغت بأمرٍ أمنى من عناوينه، فاختفت كتبه تماماً.

>>>

سقط نظام وقام نظام، وسقط نظام وقام نظام، وحسين صنع الله مُطفأ لا يُضىء لأحد، ولا يُضىء له أحد، أخذ فى التهاوى مرضاً به ورحيلاً عنه، وانكساراً دائما يمتد شرخاً من أعلى الروح إلى قاعها حيث يتجمع الدمع آهةً إثر أخرى، حتى غرق فى لاوعىٍ أبدى الظلمة.

>>>

فى المقهى؛ حيث تطفو أحاسيس وأفكار وحواديت الناس على أدخنة الأرجيلات مستمتعة برائحة مختلطة لا تكاد تفرقها بين المعسل والقهوة والنعناع وأبخر الأفواه النتنة، يجلس المهزومون من النهار، والهاربون من الضرائب وقصص الحب، والمتعبون من زوجاتهم وواجباتهم، يجلسون جميعاً مع تشكيلة فنية من المخبرين، لا يعرفهم بتاتاً زميلهم الأقدم يحيى ظافر الذى خالفهم جميعاً اليوم بأنه أحب ضحيته، رقّ قلب الرجل القاسى من رحمةٍ شقت طريقها شعاعاً وسط الأدخنة المعتقة بالهموم، ودخلت قلبه حتى ارتعش كعصفورٍ بلّله القطرُ، فساءل روحه «من أنتِ» وهو عليمٌ بها، وهل برجل مثله على حاله نكرُ، ومصادفةً كان صوت أم كلثوم يغسل قلبه من سوادٍ وظيفى وهى تشدو رائعة أبى فراس الحمدانى التى تصدح من مسجل المقهى: فقلت؛ كما شاءت وشاء لها الهوى «قتيلك» قالت: أيّهم؟ فهم كثرُ، وقالت: لقد أزرى بك الدّهر بعدنا فقلت: معاذ الله بل أنت لا الدّهرُ، أراك عصىّ الدّمع شيمتك الصبرُ، أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ.

أذلل الرجلُ دمعاً من خلائقه الكِبْرُ، وانطلق صوتٌ من داخله وسط ضجيج المقهى: «سامحنى يا رب»، لكن الله لا يُسامح إلا لو سامح العبدُ المظلومَ. نهض بارتكازةٍ على عكازه، وخطى نحو الشارع معرِّجاً نحو الطريق الذى يجلس على رصيفه هدفه القديم ليطلب منه السماح، ولكن كيف سيسامح من لا ذاكرة له، فعدل عن الذهاب لحسين الشاعر، وأصر أن يفكر بطريقة أخرى «خارج الصندوق» كما يقول المحدثون..

- آه.. الصندوق، نعم الصندوق، صندوق أعمال حسين صنع الله.

طلب سيارة واتجه يجر ظله القصير إلى مقر الأمن العام، نزل من السيارة، وجد ترحاباً من جنود البوابات فالكل يعرفه كونه دائم التردد على عمله حتى بعد تقاعده، طلب الدخول على مسئول لأمن، سُمِحَ له بسهولة، فقابله العميد سعد الدين بحفاوة، وسأله:

- هل من خدمة يا سيدى أؤديها لك؟

ردّ يحيى ظافر بالإيجاب، وحكى للعميد قصة الشاعر الذى كان مسجوناً لديه فى عهد نظامٍ سابق، وطلب الإذن بإخراج صندوق أعماله من المخازن القديمة، وبالفعل أُذِنَ له، حمل بعض رجال الأمن الصندوق فى سيارة عسكرية، واتجهوا به إلى مقر اتحاد الكتاب، رفعوه إلى الدور الثالث حيث مقر رئيس الاتحاد الذى قابل المخبر القديم يحى ظافر، وبدون سابق موعد حكى الرجل كلّ شىء للرئيس.

>>>

فى اليوم التالى، ضجت صحف المدينة بعناوين «الإفراج بعد عشرين عاماً على كتب الشاعر حسين صنع الله»، «حسين صنع الله يخرج من الصندوق»، «أحد المخبرين يجد كتب الشاعر صنع الله المفقودة».

نشط الوسط الأدبى قليلاً، ندوات هنا وأخرى هناك عن أعمال الشاعر حسين صنع الله، ومقالات نقدية واحتفائية، والرجل صاحب هذه الأعمال لا يفقه شيئاً عنها، لكن المخبر العتيق أبَى إلا أن يُكمِل مشوار المسامحة، فاتجه ومعه رجلان آخران نحو كومة الشاعر المهلهل الرث الكئيب الأشعث ذى الرمة، رفعاه إلى حمامٍ بخارى فى الحى القديم، واشترى ظافر ملابس جديدة للشاعر، حلقا ذقنه وشعر رأسه، وألبساه إياها والتقطا الصور معه، حاول المخبر أن يفعل المستحيل ليفهم حسين مراده، ففشل، لكن فجأة التمع البريق فى ذاكرة الشاعر، نظر إلى المخبر، صرخ، لكنه سمع من ظافر كلمة «سامحنى» فتناثر البريق نجوماً ودموعاً تسقط بين قدمى رجلين يتكئان على بعضهما وهما يبتعدان بظلين مختلفين خلفهما، إحدهما قصير، والآخر طويل.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق