أجتاز ظلمة مئتى عام يفصلوننى عن صديقى، أجتازهاعبرالفضاءالأزرق، أتماهى مع الضوء، ينقلنى إلى ظلمة حالكة، اسير وبرد ديسمبر يداعب معطفى، معطفى من الصوف لا أدرى متى أو كيف ارتديته، تتقاطع مساحات الضوء والظلام فى طريقى، طريقى فى شوارع سان بطرسبرج، رائحة القرن التاسع عشر، أتوقف أمام الباب، أطرقه، أقدام تقترب، امرأة تسألنى عما أريد بهدوء أجيب.
- منزل السيد فيدرو دوستويفسكى
- من أنت؟
- قارئ قادم من بعيد ومسافر مع فجر غدًا.
توقفت عن الحديث
-إنه فى انتظارك.
تصحبنى آنيا زوجته إلى حجرة مكتبه، لا يشعر بوجودنا، تشير لى بالجلوس على أقرب مقعد هامسة إنه يكتب، سأعد لك شرابًا دافئًا فالجوهذه الليلة شديد البرودة.
ساعتان من الانتظار، أراقبه وهو منهمك تمامًا فى الكتابة، بين الضوء الخافت المنسكب على الأوراق وعيون الليل السوداء التى تشتهى الحروف يعيش صاحبى استمتع بالمراقبة. يطلق ديستويفسكى أنفاس الراحة، أنفاس الانتهاء، يمسح وجهه يلتفت إليَّ مبتهج الصوت.
-أخيرًا انتهيتُ من الرواية.
- لابد أنها رواية الإخوة كارامازوف.
يندهش لمعرفتى.
لاتنسى أننى قادم من المستقبل.
تتولى آنيا أو أنتشكيا الحكى تدخل خادمة لتزويد المدفأة بقطع الخشب، تصغى معى لحديث السيدة، تقدم مشروبًا ساخنًا جديدًا أتناول الكأس من يدها قائلاً: أنتِ ساهمتِ بقدر كبير فى نجاح مبدعنا وإبداعه من الجريمة والعقاب، الإخوة كارمازوف، المراهق، الشياطين، الأبله.
لو كتبت مقالاً عنى ماذا تكتب؟
تمهلنى بعض الوقت، أجيب.
أكتب عن آنيتشكا، الاسم الذى يدللك به ديستويفسكى، معك حق من الأجمل أن أكتب عن ديستويفسكى فى عينى آنيتشكا.
ماذا ستكتب؟ قل
أقف وسط الحجرة، أجهر بصوتى.
- عليك عزيزى القارئ أن تقرأ وأنت مؤمن أن الحب يصنع المعجزات، الحب الصادق يرى ما لا يراه الآخرون، لنبدأ.
فتاة فى مقتبل العمر من طبقة ثرية، متماسكة اجتماعيًا، على قدر من الجمال أو كما قال زوجها عنها «لم تكن رائعة الجمال، لكنها لم تكن قبيحة، وأنا أحب وجهها»، قد تخمن للوهلة الأولى أن الأمر طبيعى، لكن إذا كنتَ فى جانب عائلة أنّا ربما تفكر فى أمر هذا الزواج، كيف تتزوج «أنّا» أو كما يناديها فيدور آنيتشكا من رجل محاط بالديون، أقارب مستغلون، تجاوز الثلاثين وهى فى مقتبل العمر، مصاب بالصرع، له ربيب - ابن زوجته- يعتقد اعتقادًا راسخًا أنه يستحق كل قرش يكسبه مبدعنا، لا يهم أن يكون مثقل بالديون، أو يذهب لمكاتب الرهونات.
ها هو ذا يعرض عليها الزواج.
أننى أحبك وسوف أحبك مدى الحياة.
تمتلك «أنّا» قدرا كبيرا من العزيمة والإصرار، هذا القدر كاف لإنقاذ مبدعنا ممن حوله وتحويل حياته من الضد إلى الضد، ستردد روسيا اسمه وتصفق له أينما حل محاضرًا، يحاضر أمام جمهور يشمل طبقات المجتمع الروسى من العامة إلى العائلة الحاكمة، مثل الأميرين سيرجى وبافل الكسندروفيتش.
ربما تتسأل عزيزى القارئ، لماذا تحملتْ كل هذا العناء؟
الإجابة الحب، سنرى الآن بعينيها عالم ديستوفيسكى، ستواجه المستغلين، الديون، الصرع، الغيرة، استمع معى «تحملتُ الكثير» وتبكى بين يدى زوجها من ربيبه، الذى عاملها بصلف وغرور ويسافران إلى الخارج ليتوقف استنزاف الربيب «بافل» لزوج أمه، الذى صاح فيه يوما لا ملاحظات، كل منكم سيأخذ ما حددناه، ولا قرش واحد زيادة.
انتصار مهمً حققته لإيقاف نزيف الديون والاستغلال المستمر لزوجها، تلمس فى رحلتهما إلى الخارج عشق كاتبنا للفن التشكيلى، فى زيارتهما لإيطاليا يعجب بلوحة رفاييل «القديس يوحنا المعمدان فى الصحراء» وأنه قارئ واع، يبدى رأيه فى أعمال تولستوى «روايته الأخيرة تكرار لما قرأته له من قبل بل إن القديم كان أفضل» كم كان قارئًا رائعًا أمام الجمهور، قادرًا على جذب انتباههم، هاهوذا ينقد إبداعه» ليس بهذه تكتب رواية أدبية، ليس بالعصا، بل أن يكون لدى الكاتب الوقت والإرادة» لكن الحياة كما تمنحنا تنال منا، تموت ابنتهما الأولى «سونيا».
«كان فراق طفلتنا صعبًا علينا» ينهمك كاتبنا فى رواية الأبله، أثناء قراءة الحرب والسلم للكونت ليف تولستوى، يخفى عن «أنّا» جزءًا من الرواية، حين يجرى وصف احتضار زوجة الأمير أندريه وهى تلد، لماذا؟ «أنّا» حامل ويخاف أن يؤثر مشهد الموت وقسوته عليها، يعرجا إلى فييينا وميلاد ابنة أخرى «لوبوف» الانتهاء من رواية «الشياطين».
السفر فرصة لاحتواء كل منهما الآخر فى الأفراح والأحزان، فمازالت تساعده فى الإبداع كمختزلة، تشاركه الرأى والكتابة والمناقشة فى العمل الإبداعى، يصغى لها باهتمام ويناقش آراءها، إذاً سنوات السفر هى الأساس الذى شُيدتْ عليه حياتهما معا، بعد أربع سنوات فى الخارج ومساندة جريدة «البشير الروسى» لهما بالنشر والتعاون المادى، صعاب الحياة لا تنتهى فهى تقول عن هذه السنوات موت ابنتنا الكبرى، مرض فيودور، حاجتنا إلى العمل، الولع بلعبة الروليت، عجزنا عن العودة إلى الوطن، هذ المصائب جعلتنا نفهم ونقدر بعضنا البعض «أحد عيوب مبدعنا لعبة الروليت، التى خسر فيها الكثير من الأموال» أبشرك عزيزى القارئ أن «أنّا» نجحت فى اقلاعه عن الروليت، المشكلات الباقية، الحاجة الماسة للمال، استغلال الناشرين إذ يتقاضى عن الملزمة الواحدة مائة وخمسين روبل بينما يتقاضى غيره من الكتاب خمسمائة روبل عن الملزمة الواحدة مثل تورجينيف وتولستوى، رغم أنه أكثرهم حاجة للمال.
العودة إلى الوطن فى ظاهره الرحمة وفى باطنه العذاب، سيعلم الدائنون، الأقارب المستغلون بالعودة، تعود الكرة من جديد، هل سيمارس «بافل» غلاسته وتدخله وتهكمه من جديد، أم أن هناك شيئا جديدا يطرأ على هذا البيت، نعم كما توقعت عزيزى القارئ سيلمس الكل أن هناك شيئا جديدا، لكن التحول إلى النقيض لا يتم بين ليلة وضحاها، فالديون التى تركها أخوه عبئً عليه بجانب الغشاشين الذين يكذبون ليسرقوه، أصبحتْ الزوجة حائط صد، تناقشهم فى أمر الكمبيالات المزورة، ماذا لو تكن هذه الديون، التى ترهقه فى سدادها؟
أنها تجيب بأن الإبداع مرهون بما يحيط بالكاتب، لو استطاع أن يكتب بلا تسرع «كثيرًا ما يقارن المراجع والجمهور أعمال ديستويفسكى بأعمال غيره فيأخذون عليه شدة التعقيد والتشويش وضخامة رواياته، بينما إبداع الآخرين أكثر رصانة كما عند تورجينيف».
لماذا؟ «لم يخطر ببال أحدهم أن يتذكر وأن يقدر تلك الظروف التى عاشها وعمل فيها» نحن أمام زوجة اندمجت تمامًا فى حياة زوجها وتصارع من أجله ومن أجل إبداعه، الحياة ترسل لها المصائب فرادى وجماعات وفاة أختها، كسر ذراع الابنة وتجبيره خطأ ثم كسره لتصحيح الخطأ وتخفيف الألم عن الابنة ومرض فيدور ثم مرضها هى نفسها. تجازف من جديد لتحقيق حلم زوجها، أن يصدر أعماله بنفسه رغم التحذيرات من خوض التجربة فى طباعة رواية على نفقة المؤلف، تدخل عالم تجارة الكتب وتحقق نجاحًا باهرًا، تخرج رواية «الشياطين» على نفقته «اكتملت سعادتى بزيارة بائع الكتب كوجا نتشيكوف لنا» التحمل والصلابة إحدى طرق النجاح، يفقد فيدرو حقيبة أثناء العودة من بطرسبورج، ما تحويه الحقيبة أهم من الحقيبة نفسها، مخطوط رواية المراهق، تصر على العثور على الحقيبة غير مبالية الليل وقطاع الطرق المرصوصين على جانبى الطريق إلى الميناء، تنجح فى العثور على الحقيبة والعودة بها، يراها ديستويفسكى أنها أغلى من المخطوط فيقول «قرار خاطف دون إمعان التفكير فيما يترتب عليه من نتائج».
هذا أكبر عيوب حبيبته.
تتلمس «أنّا» قول العرافة «فيلد» تخبرنا أن مجدًا كبيرًا ينتظره، وقد تحقق ذلك فى احتفالية بوشكين شاعره المفضل وتنبأت بمصيبة عائلية قريبة.
ليس موت «نكراسوف» أوائل من اعترفوا بموهبة مبدعنا، أثناء مرض «نكراسوف» الأخير يعوده ديستويفيسكى وفى مرة يطلب ألا يوقظوه حرصًا على المريض، أمام المقبرة يتحدث لزوجته.
لا تدفنينى فى جبانة فولكوف عند جسور الأدباء، لا أريد أن أرقد بين أعدائى، كفانى ما لا قيت منهم فى حياتى.
لماذا يبغض الدفن بين الأدباء، ربما حرب الشائعات، على سبيل المثال وصول معجبة من «خاركوف» إلى بيته على أثر شائعة أن زوجته هجرته وأنه طريح الفراش بسبب خيانتها، دون أن يمد أحد له يد العون، يتساءل.
من هذا العدو الذى يروج هذه التلفيقات؟
بخلاف شائعة أخرى دبرها شاعر وكذلك فرية «أنتيكوف» فى مقال أن مبدعنا موهبته الأدبية مبالغ فيها، تخيل أن هذا الحكم على قصة لم يكتبها ديستوفيسكى أصلاً. تتحقق نبوءة العرافة، يموت «ليوشا» ابنهما بسبب الصرع، مبدعنا غيور جدا على «أنّا» يثور ويثور ثم يرجع هادئًا معتذرًا.
ينسى
فيدرو ينسى
أصيب بالنسيان ربما أثر من آثار الصرع، فلا يتعرف على زملاء العمل مثل الشاعر «بيرج» اعتقد الأخرون أنه متكبر، ينسى اسم عائلة زوجته أمام موظفى استخراج جوازات السفر.
اكتبى الاسم فى الاستمارة وإلا نسيته مرة أخرى فى الطريق.
سهل الاستغلال خاصة من المقربين والفقراء، مع هذا كان له ذوقً رفيعً فى اختيار الاشياء «كانت مشترياته خالية من العيوب».
أتوقف عن الحكى، الدهشة تسكن وجه مضيفتى، تصيح
أوه، كيف عرفت كل هذا؟
أحد أصدقائى ترجم كتابك
كتابى!!
نعم ستكتبين مذكراتك يوما.
من خلف ستائر النافذة ألمح أول خيوط النهار، أصافحها مودعًا، تمنحنى نسخة من رواية الجريمة والعقاب، يحملنى الوميض الأزرق إلى حجرتى، فى يناير من عام 1881 سيعانى صديقى من الامفيزيما, مرض الرئة، تمدد أوردتها، حادثً صغيرً سيقع له فى الليل، تسقط منه حاملة ريشة الكتابة على الأرض، تدحرجتْ تحت المكتبة، يراها إشارة قدرية لتوقف الحياة، يحاول استعادة حاملة الريشة، فيصاب بنزيف الرئة ويدهمه ألم النهاية، يتحدث لآنيتشكا أو أنّاكما يحب أن يناديها.
أنا أعرف، يجب أن أموت اليوم، اشعلى شمعًة يا آنيا واعطنى الإنجيل.
ليس على آنيا فقط إشعال شمعة، على كل منا أن يشعل شمعة لديستويفسكى، أوقدوا الشموع طوال هذا العام.
نعم هذا العام.
هذا العام يمر مائتا عام على ميلاده.
لاتنسوا أن توقدوا الشموع.
رابط دائم: