شهدت الأيام الأخيرة الكثير من التطورات العاصفة فى الساحتين الإقليمية والدولية، التى تقول بتحول المنطقة والعالم من الخضوع إلى قوى عالمية بعينها، طالما تفردت بشهوة السيطرة وبسط هيمنتها بعيدا عن الشرعية الدولية، إلى أصحاب الشأن المباشر. ومن هؤلاء، أو على رأس هؤلاء، تقف روسيا والصين مع بلدان آسيا الوسطى، فى صدارة جبهة المواجهة مع حركة طالبان، من مواقع تجمع بين المهادنة والاستعداد للتعاون من جانب، والاستعداد لمواجهة تحديات العصر واحتمالات الإرهاب من جانب آخر. وإلى حين حسم الموقف فى الصراع الأخير الذى يحتدم بين باريس وواشنطن بعد الإعلان عن تشكيل تحالف «أوكوس» فى جنوب الباسيفيك، تقف موسكو فى انتظار ما يمكن أن تسفر عنه هذه الخلافات من نتائج، وما قد يرتبط بها من مواقف وتغير فى التوجهات بين بلدان الاتحاد الأوروبي، فى نفس الوقت الذى تواصل فيه توطيد علاقاتها مع عدد من شركائها فى منطقة الشرق الاوسط.
كشفت الاحداث الأخيرة فى أفغانستان، عقب فرض حركة طالبان لكامل سيطرتها على الأراضى الأفغانية، عن تحول واضح فى موازين القوى فى المنطقة، عقب تدهور مكانة الولايات المتحدة وحلفائها من بلدان الاتحاد الأوروبي، بعد الخروج «المهين» لقواتها من أفغانستان. وبينما راحت الكثير من بلدان المنطقة والعالم، تجاهر باعترافها «غير الرسمي» بحركة طالبان، وتعرب عن استعدادها للتعاون معها، تسارع روسيا والصين وحلفاؤهما فى المنطقة، بانتزاع قصب السبق والمبادرة لاستعادة نفوذهما فى المناطق التى تعتبرها الحيز الطبيعى لمصالحها الوطنية، بعد رفض موسكو وبكين دعوة المشاركة فى قمة السبع الكبار. وانطلاقا من مثل هذه التوجهات، جرى انعقاد قمتى رؤساء بلدان معاهدة الأمن الجماعي، ومنظمة شنغهاى للتعاون، فى توقيت مواكب لما تقوم به موسكو، من تطوير لعلاقاتها مع حلفائها وشركائها فى منطقة الشرق الأوسط. وكانت الأيام القليلة الماضية شهدت زيارات عدد من مبعوثى الشرق الأوسط لموسكو، ومنهم وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن عبد الرحمن ال ثاني، والرئيس السورى بشار الأسد، فضلا عن وزير الخارجية الإسرائيلية يائير لابيد، الذى وصل إلى العاصمة الروسية فى إطار الإعداد لزيارة مرتقبة لرئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالى بينيت، هى الأولى من نوعها منذ رحيل سابقه، الذى كثيرا ما ارتبط بالرئيس بوتين بعلاقات وثيقة.
وقد جاء ذلك كله فى توقيت تحولت فيه أوروبا إلى مراجعة ملفات الأمس القريب، على ضوء ما قد يترتب من تغييرات فى البيت الأوروبي، عقب رحيل المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، وما قد يطرأ من تغيرات محتملة، على علاقات عدد من بلدان أوروبا مع الولايات المتحدة حليفها الرئيسي. وفى هذا الصدد تقف موسكو فى انتظار معرفة خيار ألمانيا، الذى يمكن أن تختاره خليفة للمستشارة انجيلا ميركل، التى كثيرا ما حظيت بتقدير العاصمة الروسية، رغم مواقفها المعارضة للكثير من سياساتها، وكذلك انضمامها للعقوبات المفروضة ضدها. ونقلت المصادر الروسية بعضا من تقديرات المراقبين السياسيين الألمان، ممن يقولون بضرورة أنه لا ينبغى للمرء أن يتوقع تغييرًا حادًا فى المسار تجاه موسكو، فى نفس الوقت الذى صاروا يرفضون فيه وضع «كل البيض الأوروبي، فى السلة الأمريكية»، على حد قول مراقبين فى الأوساط الألمانية.
وفى الوقت نفسه، تظل الأنظار فى موسكو تتعلق بباريس، فى انتظار القول الفصل فيما يتعلق بأزمتها الراهنة مع حليفها فى واشنطن، وما يمكن أن تسفر عنه الخلافات الجديدة بين فرنسا والولايات المتحدة، من تحولات مرتقبة بسبب الإعلان المفاجئ من جانب كانبيرا، عن إلغاء صفقة الغواصات مع باريس وكانت قيمتها تبلغ 66 مليار دولار، مقابل 12 غواصة تعمل بالديزل، سوف تستبدلها بأخرى نووية وتكنولوجيا متطورة مع الولايات المتحدة. وكان هذا الإعلان مواكبا لآخر يقول ببناء تحالف جديد «أوكوس»، استثنت واشنطن منه فرنسا، لتكتفى بكل من بريطانيا وأستراليا لمواجهة الصين التى تعتبرها خصم الحاضر والمستقبل فى منطقة جنوب الباسيفيك.
فى غياب الزعيمين الروسى فلاديمير بوتين، والصينى شى جين بينج، ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، الذين اكتفوا بالمشاركة عبر الفيديو كونفرنس، عقدت بلدان منظمتى «معاهدة الأمن الجماعي، التى تضم كلا من روسيا وبيلاروس وقازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان، ومنظمة «شنغهاى للتعاون»، قمتيهما اللتين تقاطعت أهدافهما، واجتمعت حول مناقشة الأوضاع فى المنطقة والسبل الرامية إلى تأمين الاستقرار والأمن، عقب وصول حركة طالبان إلى الحكم فى أفغانستان. وقد أسفرت القمتان عن اتفاق البلدان الأعضاء، ومنها روسيا والصين، بلدان آسيا الوسطى أوزبكستان وقازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان، فضلا عن الهند وباكستان وأفغانستان وإيران وبيلاروس وأرمينيا، حول توقيع 50 وثيقة تنظم مختلف مجالات التعاون الثنائى ومتعدد الأطراف، وتعير أولوية الاهتمام بالحيلولة دون انتشار الإرهاب وتهريب المخدرات ودرء محاولات التوسع العقائدى فى الجمهوريات القريبة من أفغانستان. وكانت قمة شنغهاى خلصت فى دورتها الأخيرة، إلى قبول إيران عضوا كامل الحقوق إلى جانب إقرار عضوية مصر والمملكة العربية السعودية وقطر «شركاء حوار»، إلى جانب كل من بيلاروس وأفغانستان ومنغوليا وأذربيجان وأرمينيا وكمبوديا وتركيا. وفيما بدا الرئيس بوتين أكثر حماسا لقبول إيران فى عضوية المنظمة، حرص الرئيس الصينى شى جين بينج، على تأكيد تبنى بلاده لضرورة التصدى لكل التدخلات الخارجية، وعدم السماح لأى أحد بالتدخل فى الشئون الداخلية للدول الأعضاء، وإلقاء «المحاضرات الأخلاقية عليها»، على حد تعبيره. ومن اللافت، أن البلدان أعضاء المنظمتين وعلى الرغم من إعرابها عن الاستعداد للتعاون مع حركة طالبان، فإنها لا تزال تعتبرها منظمة إرهابية وتحظر نشاطها داخل أراضيها، وتظل عند موقفها من ضرورة توخى الحذر تجاه احتمالات ومحاولات توسعها العقائدى فى الفضاء المجاور، إلى جانب الاهتمام بالتدريبات والمناورات العسكرية الثنائية ومتعددة الأطراف مع روسيا والصين وبلدان معاهدة الأمن الجماعي، ومنظمة شنغهاى للتعاون، سواء فى المناطق المتاخمة للحدود الشمالية لأفغانستان، أو داخل الأراضى الروسية، تحسبا لأى احتمالات تتعلق بضرورة مواجهة اخطار الإرهاب سواء فى المناطق المتاخمة للحدود الأفغانية أو فيما وراءها داخل أراضى روسيا وبلدان آسيا الوسطى.
روسيا والشرق الأوسط
كشفت الاحداث الأخيرة عن تعجل الإدارة الأمريكية تصحيح ما وصفته بأخطاء الإدارة السابقة، ومنها ما يتعلق بعلاقاتها مع عدد من بلدان الشرق الأوسط، التى كثيرا ما ارتبطت معها بعلاقات تحالف إستراتيجي. وفى الوقت الذى تستعد فيه الولايات المتحدة لإجراء مماثل لما سبق وجرى فى أفغانستان، بسحب قواتها من العراق، رغم الكثير من التحفظات، تبدو موسكو على نحو يوحى باستعدادها للمضى قدما لاستئناف ما سبق واتخذته من قرارات، حول ترسيخ مواقعها فى الشرق الأوسط منذ بدء عمليتها العسكرية فى سوريا فى سبتمبر 2015. وكان الرئيس فلاديمير بوتين، استقبل فى موسكو نظيره السورى بشار الأسد فى أول زيارة له للكرملين منذ ما يقرب من السنوات الست، فى وقت مواكب تقريبا لاستقبال وزير خارجيته سيرجى لافروف لنظيره الإسرائيلى يائير لابيد، وعقب زيارة مماثلة للعاصمة الروسية، قام بها وزير الخارجية القطرية. وبهذا الصدد أشارت المصادر الروسية إلى أن زيارة محمد بن عبد الرحمن آل ثاني وزير الخارجية القطرية، تركزت حول بحث القضايا الثنائية والملف الأفغانى والتنسيق المشترك بين البلدين على المستويين الثنائى والإقليمي. أما عن زيارة الوزير الإسرائيلي، فقد حظيت باهتمام خاص من منظور اعتبارها أول زيارة لموفد الحكومة الاسرائيلية الجديدة، فى توقيت جاء مواكبا للكثير من التغيرات والمتغيرات التى جرت وتجرى فى المنطقة. وقد كشف وزير الخارجية الروسية سيرجى لافروف، عن استمرار تعاون الجانبين فى نفس الوقت الذى أعلن فيه «معارضة بلاده لتحويل سوريا إلى حلبة لصراع بين دول أخرى»، مؤكدا فى الوقت نفسه أن موسكو «لا تريد أن تستخدم الأراضى السورية لمهاجمة إسرائيل أو أى بلد آخر». وكشف الوزير الروسي، عن «أن العسكريين الروس والإسرائيليين يبحثون على أساس يومى المسائل الفنية المتعلقة بهذا الموضوع»، مؤكدا أن هذه الاتصالات أثبتت فعاليتها وتم الاتفاق بين الطرفين على مواصلتها، فى توقيت اعترف فيه بأن «الوضع فى سوريا لا يزال معقدا ولا يقل تعقيدا حاليا عن ذى قبل»، مفسرا ذلك بكثرة اللاعبين الخارجيين من أصحاب المصالح الخاصة، فى التسوية السورية. على أن لافروف وفى الوقت نفسه أكد اهتمام بلاده بحماية أمن إسرائيل، وهو ما سبق وأعلنه الرئيس بوتين فى أول قمة عقدها مع نظيره الأمريكى السابق دونالد ترامب فى هلسنكى فى 16 يوليو 2018. وقال بهذا الصدد : «هناك مصالح مشروعة، مثل مصالح أمن إسرائيل ، ونحن نؤكد دائما أنها من أهم الأولويات بالنسبة لنا فى القضية السورية وغيرها من النزاعات، لكن هناك أيضا مصالح غير شرعية بشكل كامل، وأقصد بذلك قبل كل شيء احتلال الولايات المتحدة غير القانونى لأجزاء ملموسة من الأراضى السورية، واستغلالها للموارد الطبيعية والزراعية والمائية والبتروكيماويات التابعة للشعب السوري، ناهيك عن الأنشطة الأمريكية الرامية إلى تأجيج الانفصالية الكردية، وهذا يؤدى إلى مشاكل من قبل تركيا كما هو معروف، ولذلك تتقاطع هناك العديد من المصالح». وكشف لافروف، عن أنه ناقش مع لابيد، الوجود الإيرانى فى سوريا، انطلاقا من «أن طهران هى عضو فى صيغة «أستانا» التى تستهدف المضى قدما، مع مراعاة كل الحقائق على الأرض، فى تطبيق قرار مجلس الأمن الدولى رقم 2254، الذى ينص على استعادة وحدة أراضى سوريا واحترام سيادتها ومنع أى مخططات انفصالية والمضى قدما نحو تفعيل حوار وطنى شامل».
ومن منظور مماثل، جرت مباحثات الرئيس الأسد فى موسكو، حيث أكد الرئيس بوتين، تقديره للدور الذى يلعبه على صعيد محاولات التوصل الى التسوية الشاملة فى سوريا. وفى هذا الصدد، عزا بوتين تعثر سيطرة الحكومة السورية على كل أراضى البلاد، إلى وجود القوات الأجنبية، قائلا: « ان المشكلة الرئيسية برأيى وجود القوات الأجنبية فى بعض المناطق دون قرار من الأمم المتحدة أو دعوة منكم، وهو ما يخالف القانون الدولى ولا يمنحك فرصة بذل الجهد الأقصى لإعادة التماسك للبلاد، ومن أجل المضى قدما فى طريق استعادة البلاد، يجب أن تكون السيطرة لحكومة شرعية واحدة»، حسب تعبيره. ومن جانبه قال الرئيس الأسد «إن عملية «تحرير الأراضي» تجرى بالتوازى مع «العملية السياسية»، فيما كشف عن شكواه من استمرار العقوبات الغربية.
رابط دائم: