لن تسعفك حدة ذهنك، ولا عمق تحليلك، ولا بُعد نظرتك، بل حتى خيالك الواسع سيقف عاجزًا أمام قصة ستة أحرار فى القرن الحادى والعشرين حفروا أرض زنزانتهم بالملاعق وهربوا من أشد السجون مراقبة وتحصينا! حفر الأحرار الستة الفلسطينيون ثقبًا فى هيبةِ كيان المحتل الهش.. لم يستجدوا الحرية استجداءً بل انتزعوها انتزاعا لأنها حق للإنسان، والحقوق تُنتزع لا تُستجدى.
والتاريخ على مداره يحمل لنا الكثير من القصص والحكايات لسجناء أبطال يحفرون الأخاديد فى جباه الطغاة حتى يبصروا من ورائها شمس الحرية.
فعندما شن النظام الفاشى فى إيطاليا عام 1926 حملة اعتقالات واسعة، كان الفيلسوف الماركسى أنطونيو غرامشى وقتها عضوا فى البرلمان، فأعد الحزب خطة لفراره إلى سويسرا، لكنه أبى وأصر على البقاء لمناقشة بعض القوانين، وكان يردد لرفاقه: «إن الربان ينبغى أن يكون آخر من يغادر السفينة الغارقة».
قبل اعتقاله شُكّلت «محكمة خاصة» من أجل الدفاع عن الدولة، فكان أول من قدم إليها غرامشى. قال المدعى العام فى مرافعته بعد النقاشات: علينا أن نوقف هذا الدماغ عن العمل عشرين عاما. وفعلا حكمت المحكمة عليه فى الرابع من يونيه عام 1928 بالسجن 20 سنة و4 أشهر و5 أيام بعدة تهم مختلفة أهمهاالخيانة!.
لم يُحطِّم السجن عزيمته، بل زاده صلابة كعادة كل حرٍّ يؤمن بقضيةٍ ورسالة ماــ وألّف كراساته الشهيرة استكمالاً لنضاله، والتى بدأها فى فبراير 1929 وفرغ منها 1935. بلغت 33 كراسة، وكان يقول عنها: هى «بؤرة حياتى الداخلية». توفى بعد ذلك بسبب التعذيب فى 27 أبريل 1937م.
ما أَرَقّ تلك الرسائل التى كتبها إلى والدته وهو فى السجن! وقد أظهر فيها عاطفته العميقة تجاهها. «أقبّلك.. لكِ منى أحر القبلات.. أقبّلك بحنان.. ألف قبلة..إلخ».. كان يجتهد كثيرًا بإرسال القبلات ليوضِّح لها أن هذا السجن والتعذيب وقبضة الدكتاتور كلها عاجزة عن سلب رقة طفلها وإخماد جذوة شوقه تجاه محبوبته.
يواسى نفسه برسائلٍ يكتبها إليها، ويعيشُ برسائل تصل إليه منها. عن احواله داخل السجن، يقول:
حياتى تتدفق دائمًا بنفس الطريقة
أقرأ، آكل وأنام وأفكر.
لا أستطيع أن أفعل أى شىء آخر..
ويسترسل: قلبى يدمع، الآن بالتحديد، بمجرد التفكير أننى لم أكن دائما حنونا وطيبا كما ينبغى أن أكون معك، وكما كُنتِ تستحقين.
مهما كان حكم المحكمة فأنا معتقل سياسى وسأكون متهماً سياسياً. ولا ينبغى أبداً أن تشعرى بالخزى من هذه الوضعية.
وفى سجنه، كتب انطونيو غرامشى فى 12 من ديسمبر 1927 رسالة إلى أمه يقول فيها:
«سأكون سعيدًا لو أنكِ كتبتِ لى رسالة كل خمسة عشر يومًا. ففى هذه الحياة المرغم على عيشها يعتبر غياب أخبارك عذابًا حقيقيًا».
وبقدر الألم على فراق الأهل وهو ما يتجلى فى جميع رسائله، فقد حاول مرارا المناضل الإيطالى أن يواسى والدته فى مصيبته، قائلا:
امى العزيزة أريد حقيقة أن احضنك بقوة بين ذراعى كى تشعرين بعميق الحب الذى أكنه لك وكم أرغب أن أواسيك عن هذا الحزن الذى تسببت فيه لك..
أحيانا يجب أن يتسبب الأبناء بأحزان كثيرة لأمهاتهم، إذا أرادوا المحافظة على شرف وكرامة الرجال.
توفى غرامشى وهو يبلغ من العمر 46 عاما، لكنه قضى منهما 11 عاما سجينا خلف القضبان.. أثمرت هذه السنوات عن كتابة أكثر من 3000 صفحة شكّلت نظرياته الثقافية والاجتماعية والفلسفة فى الحياة.
رابط دائم: