لم تكن البلكونة البحرية فى البيت الكبير امتدادًا له فحسب، بل تحولت مع مرور الأيام إلى جزء أساسى من الشقة. كما لم تكن الشقة مجرد بيت ضم أفراد العائلة الكبيرة انما ملتقى لكل ما يشغى به الخارج؛
الأشياء والناس.. كان العالم يأتى الينا، يتشابك معنا، يترك بصماته علينا.. ويمضي
حياة كاملة بكل تفاصيلها عشناها فى البلكونة وحولها.. بهتت فيها الحدود بين الخاص والعام، لذا لم يكن وجود شخص غريب عن البيت بيننا أمرا غير معتاد، لكن احتلاله البلكونة البحرية صباح أحد الأيام كان المفاجأة.
رجل متوسط الطول تحيط بوجهه المدور هالة من الشعر المشعث. بدت إحدى عينيه شبه مغلقة كما لاحت كفاه متسختين، لونهما بنى به احمرار و ثمة سواد حول أظافره، يعمل بهمة وتركيز على قطعة خشب وقد تسمرت على وجهه شبه ابتسامة كأنه نسيها هناك.. و لم يلحظ ظهورى فى البلكونة.
يمرر الرجل قطعة صغيرة من الكرتون المصنفر على الخشب يزيل بها الشوائب والبروز والنتوءات فيصبح املس ناعماً، وقد تناثرت حوله أدواته بألفة وكأنها وجدت هنا دائما.
رغم استيلائه على المكان، وحرماننا من استخدامه على هوانا أياما طوالا، فإنى انجذبت لما كان يفعله الرجل، فكنت أتسلل لأراقبه وهو يعمل بدأب وفى هدوء: يأخذ القياس الدقيق بالمازورة المعلقة حول رقبته، و يضع مكان القياس على الخشب علامة بالقلم الكوبيا الذى يسحبه من فوق أذنه اليمنى. وبعد ان يتأكد من حساباته يثبت قطعة الخشب جيدا على الطاولة ويعمل فيها المنشار فيتطاير فى الهواء غبار كالرذاذ ويسقط على الأرض شريط رفيع من بقايا الخشب المنشور فى شكل حلزونى أخَّاذ.
يتأمل الرجل بين الحين والآخر ما شكلته يداه ثم يبدأ بمسح الخشب بقماش مبلل بسائل رائحته نفاذة يضفى على الخشب لونًا بنيًا ولمعانًا فيجليه ويُظهر تناسق الصنعة.
انتبهت على دخول أبى البلكونة، وجدنى هناك أرقب العمل فى صمت.. حيا الرجل وهو يتأمل القطعة الخشبية قائلا: «الله ينور.. شغل دهب» وبادرنى بالسؤال: سلمتى على عمك عبده؟
فكرت: «عمى عبده»؟ وتعلقت عيناى بيد الرجل الشغالة، الغليظة المتسخة وعينه الوحيدة التى يرى بها وابتسمت خجلًا.. هل يستخدم أبى كلمة عم كلقب أم أن الرجل قريب لنا؟ وكيف يكون لنا قريب بهذه الهيئة الرثة البسيطة!
أكمل أبى حديثه مع الرجل ولم ينتظر كثيرا قبل أن يوضح لي: «تذكرين صديقتك ليلى التى تأتى لزيارتنا عندما نذهب البلدة وتلعبان معًا؟.. عم عبده يبقى جدها.. وأضاف بود: يعنى عمك». استمررت فى صمتى وتأملى لعمل الرجل ولم أتفوه بشيء..
وبعد سنوات كثيرة لم أتأكد خلالها ان كانت هناك علاقة قرابة تربط عم عبده بأسرتنا. ولكنى كنت خلال ذلك، كلما شاهدت إيدى خشنت من كثرة الشغل أو تغيرت هيئتها من وطأة العمل، أستشعر ان ثمة علاقة قرابة تربطنى لا شك بصاحب هذه اليد.
لم يكن عم عبده سوى نفحة من نفحات البلكونة التى لاتزال تهب عليّ محملة بخبراتها وناسها وعطر ذكرياتها.
رابط دائم: