عند حلول مئوية اندلاع الثورة العرابية عام 1981، نشرت الأهرام ثلاثة مقالات وافية للكاتب الكبير الدكتور رشاد رشدى ( 1912- 1983) وذلك تحت عنوان موحد وهو: «عرابى والشخصية المصرية» . الثلاثية التى نشرت خلال فبراير 1981، مدت خيطا حريريا متينا ما بين شخص كاتبها ووقائع الثورة العرابية. ففى افتتاحية أحدها، اعترف رشدى كاتبا: «فقد كنت واعيا تمام الوعى وأنا مازلت تلميذا بالمدرسة الثانوية باحتلال الإنجليز لمصر. وتعدى هذا الوعى مرحلة الإدراك إلى مرحلة الإحساس، فكنت أشعر بهذا الاحتلال يجثم على جسدى الضئيل كحجر ثقيل يكتم أنفاسى ويشل حركتى. وكنت قد سمعت أن عرابى قد سعى سعيا جادا لتخليص مصر من النفوذ الأجنبى فكيف حدث أن دخل الإنجليز البلاد برغم جهود عرابى بل وأثناء حياته نفسها؟»
عرابى.. فارس هزمته الظروف
سعى رشاد رشدى عبر ثلاثيته للرد على هذا السؤال تحديدا، فأتت الإجابة بتحقيق هدفين رئيسيين. فنفى، أولا، عن الثورة العرابية تهمة «الفئوية»، منتهيا فى خاتمة المقالات الثلاثة، والمنشورة بتاريخ 19 فبراير 1981 إلى التأكيد: «قامت الثورة العرابية لا كانتفاضة عسكرية - بل كثورة قومية حقيقية تسعى إلى القضاء على النفوذ الأجنبى وإعادة الكيان إلى الشخصية المصرية بكل مقوماتها.. فقد ساند هذه الثورة الشعب بكل فئاته فيما عدا المستفيدين من الوضع القائم من عبيد السلطة والمال..»
ونفى رشدى، ثانيا، عن الثورة العرابية تهمة أنها المتسببة لقدوم الاستعمار الإنجليزى إلى مصر. فيقول فى المقال ذاته: «يخطئ من يظن أن الثورة العرابية هى التى أدت إلى احتلال الانجليز لمصر.. فهذه أكذوبة نشرها المستعمر ليبرر وجوده .. والحقيقة أن انجلترا كانت قد قررت ضم مصر إلى الإمبراطورة البريطانية قبل أن يقوم عرابى بثورته بنصف قرن على الأقل...».
إنصاف الثورة العرابية:
حاول رشاد رشدى بذلك إنصاف أحد أبرز الحركات الوطنية فى التاريخ المصرى، وأحد أبرز القيادات المصرية، فقد نالها من الاتهامات والسهام الكثير، والكثير جدا. وهو بذلك يتوافق مع الصحفى والمؤرخ الكبير صلاح عيسى (1939-2017) الذى أكد فى كتابه المرجعى: «الثورة العرابية» 1970، أن: «الثورة العرابية .. هى الرد المصرى الذى كان يهدف إلى إيقاف الغزو الاستعمارى الأوروبى لمصر. لقد انفجرت الثورة فى مواجهة حالة استعمارية فعلية تمت بطريق الغزو السلمى التدريجى». وأوضح أن الحالة الاستعمارية تلك بدأت بتوقيع محمد على باشا معاهدة لندن 1840 والتى حدت من توسع محمد على عسكريا وتمدد سطوة مصر جغرافيا وسياسيا، وأن أهم أدواتها لاحقا للاستيلاء على السلطة، كانت بتصدير رؤوس الأموال على هيئة قروض فى عهدى محمد سعيد باشا (1822- 1863) والخديو إسماعيل (1830-1895).
فهذه القروض التى باتت ديونا مهدت تمهيدا ناعما جهنميا إلى ما وصفه عيسى بـ « تكوين مؤسسات اقتصادية وسياسية حلت محل السلطة السياسية التقليدية فى المجتمع المصرى»، مشيرا إلى واقع الحكومة المختلطة بوزيريها الأوروبيين، أو الرقابيين، وتعضيد مكانة «المحاكم القنصلية» التى باتت «المحاكم المختلطة». والأهم تأسيس ما عرف بـ «الجمعية التشريعية للمحاكم المختلطة»، وهى «مجلس تشريعى أجنبى لا يصدر قانونا فى النية تطبيقه على الأجانب دون عرضه على الجمعية المذكورة وموافقتها عليه»، وفقا لشرح صلاح عيسى. احتلال سلمى مكتمل الأركان وتم ترجمته فى هيمنة واضحة للأجانب على جميع المجالات، ووسط منهج عنصرى واضح ضد أهل البلد. ولكن لماذا تم التصعيد إلى غزو عسكرى فعلى؟
يوضح صلاح عيسى أن ذلك كله استدعى تطور حركة المقاومة المصرية إلى حد هدد خطة الاحتلال السلمى، وذلك بعد إسقاط الوزارة المختلطة. فكان يتوجب أن يجرى ما جرى. ولكن ماذا جرى، وفقا للأهرام؟
الأهرام وتغطية «متحفظة» :
القارئ لأعداد «الأهرام» فى زمن الثورة العرابية، سيجد أخبارها ترد على صفحات الصحيفة العريقة كشذرات متفرقة، وذلك تحديدا فيما يخص الوقائع الأولى للثورة وقبيل هجوم الأسطول البريطانى على الإسكندرية فى صيف 1882. وهو التوجه الذى أرجعه المؤرخ الكبير الدكتور يونان لبيب رزق إلى عاملى مراعاة أصحاب «الأهرام» وقتها لعلاقتهما مع الخديو توفيق ( 1852- 1892)، ومراعاة الطبيعة الحساسة للمجتمع السكندرى ذى الحضور الأجنبى الواسع والنشاط الاقتصادى المتنوع، وكلاهما كان ليضطرب بأخبار ثورة أو حتى «هزة» بسيطة تضرب النظام الحاكم. ولكن ما نقص فى التغطية الآنية التقليدية للثورة العرابية، استكمله رشاد رشدى فى تناوله ليوميات الثورة فى ثلاثية 1981. ومعهما يمكن الانتقال بين المراحل الأساسية للثورة العرابية.
وكانت مرحلتها الأولى بذروة احتقان الأحداث بقرار الخديو توفيق فى منتصف يناير 1881 إحالة عدد كبير من قوة الجيش المصرى للاستيداع بعد تخفيض إجمالى الجيش إلى 12 ألفا. ومبالغة عثمان باشا رفقى، وزير الحربية حينذاك، فى سياساته الداعمة للأجانب والمحقرة للمصريين.
فكانت العريضة التى صاغها عرابى موكلا من مواطنيه بالجيش، وكشفت مطالبها إدراك عرابى ورفاقه الرابط بين تكريس الديمقراطية واستعادة حقوقهم المسلوبة، فطالبوا بتأسيس مجلس للنواب مصرى العضوية، وزيادة أعداد الجيش، وتعديل التشريعات المجحفة بحق العسكريين المصريين.
تحرك رفقى باشا باستدعاء عرابى وشريكيه فى التوقيع على العريضة لمقر وزارة الحربية بقصر النيل، ليوقع بهم ويسجنوا. فيهب عدد من الجنود المصريين لتحرير عرابى ومن معه، فيما لاذ رفقى باشا بالفرار، وتجمع عدد آخر من الجنود بميدان عابدين طلبا للعدل، وذلك كله بتاريخ 14 يناير1881. انتهت هذه المرحلة التمهيدية إلى إقالة رفقى باشا، وتعيين محمود سامى البارودى، وكان يشغل منصب وزير الأوقاف وتجمعه صداقة بعرابى، وزيرا للحربية. فكان ذلك انتصارا كبيرا لثورة الجنود.
ولكن الأمور لم تستقر طويلا بعد موقعة «قصر النيل»، إذ تحرك الخديو لاحقا لإقالة البارودى وإبعاد عرابى والفرق الموالية عن القاهرة فى تحرك ممهد لتصفيتهم والحيلولة دون تطور شعبيتهم . فكانت المواجهة بساحة سراى عابدين فى التاسع من سبتمبر 1881 بين عرابى ورجاله والخديو توفيق.
وخرجت «الأهرام» فى اليوم التالى، العاشر من سبتمبر، بتغطية متحفظة لهذه المواجهة تحت عنوان « حادثة مصر»، وجاء فيها: «وردت العساكر إلى فسحة سراى عابدين وكان قد أرسل حضرات الضباط بشيركولارى إلى جانب القناصل يعلنون فيه أنه ليس لهم من غاية فى إيقاع ضرر بأحد من الأجانب او الوطنيين وسواهم ولكن لهم غاية واحدة تنحصر فى ثلاث مسائل. أولاها: تغيير الوزارة واستبدالها بوزارة يؤلفها دولة شريف باشا. الثانية إقامة مجلس نواب. والثالثة وجوب السير بموجب القانون العسكرى الذى رتبه القومسيون المشكل من وطنيين وأجنبيين وقد رفعوا هذه المطالب إلى سمو الخديو المعظم والتمسوا منه التكرم بإجابة طلبهم». ووفقا للأهرام، فإن طلب تغيير الوزارة قد تم الاستجابة له بعد حضور عدد من قناصل الدول إلى سراى عابدين.
توحى تغطية الأهرام بأن الأزمة لم تكن عظمى وتم احتواؤها سريعا، فتورد: « وبعد ذلك تفرقت العساكر معلنة تمام خضوعها لسمو الخديو المعظم»، وملحق بها تعليق من المندوب الصحفى، مؤكدا التهوين الأكيد مما جرى بعابدين فى التاسع من سبتمبر، فيقول: « هذا ولاشك بأن الأخبار التى صدرت إلى ثغركم بهذا الشأن جاءت مبالغة على حين لم يكن ما يشير إلى ايقاع مضرة بأحد وقد استولى السكون والهدوء».
ثم جاء تعليق إضافى من «الأهرام» يومها، وكان كالتالى: «ان الاضطراب الذى استولى أمس فى ثغرنا منشؤه اختلاف الأخبار وغلوها ومبالغتها وقد أول الناس الحوادث إلى تأويلات شتى وبنوا عليها .. وزادت هذه الأخبار فى اضطراب مركز البورس (البورصة) حتى سقط السعر إلى الحد الذى ترى وداخل العالم الخوف، على حين علم الجميع أن الحوادث قد انجلت على غير فتنة أو مضرة وأن المسألة المالية ولئن تأثرت فلا يكون تأثيرها إلى الحد الذى توهمه البعض».
ولكن تأثير ما جرى فى سراى عابدين كان مجرد البداية لمراحل تالية من «الثورة العرابية» التى نالت ظلما عظيما.
باقى تلك المراحل فى الأسبوع المقبل من « وفقا للأهرام».
لوحة متخيلة للحظة مواجهة عرابى وجنوده الخديو توفيق وحلفاءه بسراى عابدين
رابط دائم: