«معرفة الناس كنوز» مقولة أحفظها عن والدتى من زمن بعيد، لكنى وأنا أكتب عن إبراهيم داوود أجدنى أمام هذا المأثور وجها لوجه، فهذا الشاعر الكاتب الصحفى، عاش بين الناس، محبا ومشفقا وعطوفا، انظر إليه يكتب على صفحته على الفيس بوك «الكراهية عاوزة صحة، واحنا تعبانين».
فى مقدمة كتابه النثرى الأحدث «طبعا أحباب» كتب يقول: «مصر هى حارسة الجمال والذوق والخيال والإيمان والقيم» إنه مهموم بأمر هذا البلد شغلته أزمنة البناء والبنائين، ثم أدركنا جميعا زمن تتهدم فيه تلك الأبنية فى غير رحمة، فأشهر قلمه يريد أن يمسك بمَعْلَمٍ من معالم الجمال، وصورة من صور الذوق، ومظهر من مظاهر الخيال، وطريقة من طرق الحب، من خلال شخصيات لا يجمعها زمن واحد ولا يسلكها معا إلا ما أسهمت به فى بناء القيم التى يبحث عنها إبراهيم داوود ويأسى ويتألم خوفا عليها وإشفاقا من ضياعها.
.................
فى أغلب مقالاته يختار إبراهيم داوود نمطا أشبه بـ «العمود الصحفى» فهو بطبيعته لا يحب الثرثرة، يود لو وضع فى يد القارئ كلمات المقال كما تضع قطعة حلوى فى يد صبى، تكون هى كل مبتغاه. يقضى داوود أوقاته على المقهى، لذلك فهو يقول «المقهى بالنسبة لى ليس فقط المكان الذى ألتقى فيه أصدقائى، أو أذهب إليه للعب الطاولة، المقهى جزء عزيز من عمرى، هو الحضن الدافئ للغرباء، هو ضابط إيقاع فى لحن الحياة الذى لم يكتمل» لذلك صار المقهى له مكان نشوء «الحكايات والإيماءات والمعارك الجانبية».
ستظهر الحكايات بقوة فى كتابين من كتب إبراهيم داوود أولهما «خارج الكتابة» الذى يقع فى قسمين: فى فصل «مع أم كلثوم» قدم بحثا دقيقا عن الفنانة الكبيرة، وفنّد بعض ما كُتب عنها من نقد فنى من دون روية، وكل ذلك يقع للقارئ موقع الإعجاب والسلاسة والحب، والمؤلف لا يتردد فى القول إن «المدرسة المصرية فى الغناء مدرسة كبيرة مستقلة: نحن نستعين بالغناء لكى نقاوم به الحزن، ونغسل به أرواحنا، وغناء المصريين لا يشبه غناء اللبنانيين، لسبب بسيط أننا زرّاع وهم تجار.. وحاجتنا للغناء ليست حاجة للكلام المثقف الحلو الذى يلخم التخين».

إبراهيم داوود مع الأبنودى
لغته فى «خارج الكتابة» لغة حية جريئة، فهو لا يتردد فى استعمال العامية ألفاظا وتراكيب. والسخرية سمة النص البارزة، ففى نص بعنوان «العزا بعد المسلسل مباشرة» يحكى عن سعد، صديقه كاتب القصة «تعرفت إليه فى مدينة طنطا، أواخر السبعينيات حينما التحقت بالجامعة هناك، كان يكبرنى بخمسة عشر عاما، ويكتب شعرا عموديا «بدرفتين».. أقسم سعد أنه مازال عند وعده وأنه لن يكون غير نباتى، فى يوم من الأيام، وعندما غررت به إحدى السيدات، وأعدت له كل ما تشتهى الأنفس، سألها هل عندك ديوان المتنبي؟» هنا تبدو الحكاية كما لو كانت منقولة حرفيا من الواقع، فمكانها وشخصياتها حقيقية، لكن السارد صنع منها خطابا قصصيا، أدخلها به فى قلب الأدب من أوسع الأبواب.
الكتاب الثانى هو «الجو العام» وفيه يقدم إبراهيم داوود لونا من فن البورتريه أو «الصورة القلمية» عن 38 شخصية، لكن القالب الذى وُضعت فيه الحكاية، أقرب إلى القصة القصيرة، وقد اتخذ لكل «صورة» منها عنوانا.
نموذج بشرى مكتمل الملامح يقدمه فى كل «قطعة» من الفصول القصار فى كتابه الممتع، فنراه يكتب فى «الإنتاج» عن شخصية «رفقى» كل التفاصيل الخاصة بالشخصية مذكورة فى سرد مكتنز تجعلنا نعتقد أن الصورة القلمية إن هى إلا «حدوتة» تقليدية، يحكيها المؤلف بلا رتوش ولا بلاغة، عن شخص عرفه وعايشه، لكن هذا الإحساس بالصورة سوف يتلاشى، عند التقدم فى قراءة كل نص، حيث ندخل دهاليز السرد، الذى يصبح أمامنا «قصة قصيرة» ذات حبكة، فيها تتحول المصائر، وفيها السخرية، والمفارقة، إنها نصوص ذات أبعاد وأعماق وليست مجرد «حكايات».

إبراهيم داوود مع إبراهيم أصلان
فى كتاب «الجو العام» قطعة بعنوان «المسرح» هى صورة قلمية عن شخصية «أحمد» الكاتب المسرحى الذى كتب نصا واحدا، وكتب شعرا بالعامية، وكتب أيضا فى النقد الأدبى، ثم انقطع عن الاستمرار، هذا الشاعر الناقد سوف يسافر إلى العراق وقت الأزمة فى علاقات مصر الرسمية بالعراق فى عهد صدام حسين، هناك سوف يقوم بمغامراته التى يحكيها النص. «أحمد» فى نص إبراهيم داوود هو صورة من المثقف السطحى المُدّعى الكذاب، الذى يطفو على سطح الحياة الثقافية، حتى يصبح فى النهاية وقد فاحت منه رائحة مثل جثة حمار ميت.
فى الشعر كتب إبراهيم داوود ديوانين اثنين فى قالب القصيدة التفعيلية هما «تفاصيل وتفاصيل أخرى» و«مطر خفيف فى الخارج» وقد أهدى ديوانه الأول إلى روح أمه، وجعل القصيدة الأولى بعنوان «شارعنا» حيث يلاحظ القارئ المدقق أن الغنائية لا تسيطر على هذا النص القديم سيطرة كاملة، لذلك كان من السهل على الشاعر أن ينسلّ إلى قالب «قصيدة النثر» فى غير صعوبة، وفى غير تردد، لكننا نلاحظ أن «الأم» ستبقى فى نصوص الشاعر لن تغادرها أبدا، أما «الشوارع» فسوف تكون إحدى موضوعات هذا الشعر مع الحانات والمقاهى والحزن والغناء والموسيقى.
وفى ديوانه «كن شجاعا هذه المرة». يسود نمط الواقعية. أما فى ديوانه «حالة مشى» فنرى النزعة الصوفية، فالعتبة الأولى بعد العنوان اقتباس من أبى الحسن الشاذلى «593ــ656 هجرى» يقول «نحن كالسلحفاة، نربى أبناءنا بالنظر».

إبراهيم داوود مع نجم
فى ديوان «أنت فى القاهرة» قصيدة بعنوان «منازل» فى المقطع الأول نجد الشارع والأشجار والمشى والموسيقى:
«فى الأدوار الأرضية \ يمشى الناس فى رأسك
وأنت نائم \ ويكون الزمن عجوزا
يسكن معك \ يقاسمك الرطوبة
ويسبقك إلى الشارع قبل أن تغسلَ وجهك»
كيف تحولت اللمحة الواقعية جدا عن حياة فى غرفة معتمة لمدة تسع سنوات، عاشها الشاعر منعزلا، إلى هذا السحر اللغوى؟ هل هى الاستعارة؟ نعم هناك استعارة المشى فى الرأس، وهناك استعارة الزمن العجوز وهو يُطِلّ، وقد كرر الشاعر عبارة «تسع سنوات» ثلاث مرات فى القصيدة، لكن الشاعر لديه المزيد:
«أصدقائى \ لم يشعروا بوجودى \ ولكنهم شاهدوا الموسيقى \ تسيل على الحائط».
لا يبخل الشاعر على هؤلاء الذين أقام بينهم تسع سنوات، فأعطاهم وصف «أصدقائى» لكنه كان طوال الوقت يعطى عربونا لتلك الصداقة، هى موسيقى تنساب من حائط الغرفة المغلقة دائما فتسيل على الجدران، الموسيقى عرضت نفسها على سكان المنطقة فانسابت وسالت، وهم لم يسمعوها، الشاعر يعرف أنهم لم يسمعوها، وإلا كانوا تحدثوا معه بشأنها راغبين أو زاهدين، لكن هذا يحدث فى القصص لا فى القصائد، فى القصيدة أنت ترى وتسمع أشياء غير التى تحكيها القصص، هذا هو الفرق بين قصيدة النثر والقصة، حتى لو كانت قصيدة النثر قصة، فإن الذين يتورطون فى كتابة خطاب حكائى سردى من خلال قصيدة النثر يقعون فى فخ الالتباس، أما إبراهيم داوود، فهو أستاذ فى فنه، لا يقع فى فخ «السرد» وإن كان السرد صنعته كما رأينا فى كتبه السردية.

إبراهيم داوود مع حجازى وفضل
فى مقطع واقعى تماما، تؤكد القصيدة أن الأصدقاء هم جيران لا يعرفون عن الشاعر أنه شاعر، ولا هم يحبون الموسيقى، يكفى أنهم طيبون، المفارقة أنهم أكدوا أنه منهم، كيف كان منهم بصمته وابتعاده؟ من جانبه كان هذا كافيا لكى يكونوا أصدقاء حقا! وقد دعوا للشاعر بأن يطمئنَ اللهُ قلبَه، هى دعوة لا تصدر إلا من محب صادق، هل نقول من أمٍّ لابن؟ قد يكون!.
ليس من الصعب أن تقول عن شعر الحب عند إبراهيم داوود إنه «حب صوفى» كما فى قصيدة «حنين» حيث يخاطب المحبوبة هكذا:
«أنتِ عذْبةٌ وأنت خائفة \ عذبةٌ وأنت عنيفة
وأنا أحبُّكِ \ أحبُّ ملمسَ إحساسكِ \ وأستمتع بالعزف معكِ»
لفظ عذبة قديم عند الرومانتيكيين، ولاسيما أبو القاسم الشابى، لكن الشاعر هنا يصوّر ولا يقرر، يصور عازفة موسيقى تلعب بآلتها، هى محبوبة عصرية واقعية محترفة «تعزف كما يقول الكتاب» والشاعر يتجاوب معها، لكنه لا ينسى قصيدته، فنه وصنعته، لذلك يخاطبها، أو يخاطب نفسه قائلا:
«وأنا أرتجل بآلاتى القديمة جُمَلا حزينة \ تحملُ رعْشة النّاى \ وأشواقَ الدَّراويش»
الناى وحده يصدح فى حديقة الصوفيين، كما قال مولانا جلال الدين الرومى «604 – 672 هجرى» فى مطلع كتابه «المثنوى المعنوى»:
«أنصِتْ إلى النّاى يحكى حكايتَه
ومنْ ألَم الفراق يبثُّ شكايته»
قصيدة «حنين» فسيلة نابتة، تشرب من النبع الذى جاء منه الناى، من جنة الشعر والموسيقى، والحب الصافى الخالد، هى كذلك جنة الإيمان والقيم.
آخر قصيدة نشرها بصفحته على الفيس بوك، يوم 18 يونيو الفائت، وفى نهاية القصيدة ينتقل الشاعر لمخاطبة نفسه، مستخدما طريقة الشاعر القديم، هى بلاغة التجريد: رحل الطيبون/ ورحل الحمقى/ ولا تريد أن تتذكر أيا منهم. ليس صحيحا أنه لا يريد أن يتذكر هؤلاء الذين يسميهم «الطيبين» و«الحمقى» بل إنه لا يستطيع أن ينساهم، هؤلاء هم: الشعراء والكتاب، وقراء القرآن الكريم، والمغنون والمغنيات، كيف ينسى نجيب محفوظ والشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وإبراهيم أصلان، وخيرى شلبي؟ أو هدى سلطان وعمار الشريعى وشادية، وزكريا أحمد والشيخ مصطفى إسماعيل؟ هؤلاء هم الناس «إذا جاءت سيرة أحدهم لا تعرف ماذا تقول» و«معرفتهم كنوز».
إبراهيم داوود عَلَم فى الشعر المعاصر، ينتمى إلى جيل الثمانينيات فى مصر، هو وأربعة شعراء على الأكثر، أسسوا قصيدة النثر، صوته لا يشبه غيره، ولقد حصّل جائزة مؤسسة ساويرس 2013 عن كتابه السردى «الجو العام»، وجائزة أفضل ديوان شعر فى معرض القاهرة للكتاب عام 2015م، لكنه الآن يستحق ما هو أكثر، إننى وأنا أحييه بمناسبة بلوغه سن الستين، أدعو المعاهد العلمية والجهات المعنية، إلى أن ترشحه للجائزة التى يستحقها، جائزة الدولة التقديرية.
رابط دائم: