النص المسرحى هو عصب العملية الفنية، وجمال الورق المكتوب يفتح شهية المخرج وتتوهج طاقة الممثل، فكان التاج الأكبر على رأس المؤلف .. إلى أن ظهرت وظيفة «الدراماتورجى» ليثور السؤال حول مصير هذا التاج.. ولمن تتجه إليه الأنظار ويحظى بالتصفيق!.
وتعود فلسفة الدراماتورج بمفهومها الحديث إلى الكاتب الألمانى جوتلد إبراهام ليسنج فى القرن الثامن عشر، وعلى يديه تبلورت مهمة «الدراماتورجى» فى تصنيف نوعيات النصوص المسرحية، ومناقشتها ودراسة مفرداتها والأساليب المتنوعة لكتابتها.. وتعددت أدواره لتشمل اختيار الممثلين، وفرز النصوص، وتصميم البرامج التدريبية والتعليمية، وصولا إلى مساعدة المخرج فى البروفات.
مستشار أدبى
وتدريجيا احتل «الدراماتورجى» مكانة مرموقة كمستشار أدبى يتولى مسئولية البحث عن النصوص الجيدة المكتوبة بلغات أجنبية، ويترجم ما يصلح منها للتقديم على خشبة المسرح، ثم يصبح حلقة الوصل بين العمل الفنى ووسائل الإعلام ترويجا للعروض من واقع ثقافته الواسعة وإلمامه بالمعلومات والمعارف التاريخية والثقافية، فضلا عن مهارات الكتابة وتحليل البناء المسرحى.. وهذه الجذور الأصيلة عالميا لوظيفة «الدراماتورجى» لم تمنع من الاصطدام بحقوق المؤلف الأصلى ورغبته فى التفرد والتميز، لاسيما فى محيط المسرح المصرى الذى اكتظ مؤخرا بـ«فصيلة» خاصة من محترفى «الدراماتورج»!.
ياسر أبو العينين هو «جوكر» مسرحى يجيد التنقل بين التمثيل وتدريب الزملاء، مرورا بزى «مساعد المخرج» وانتهاء بحرفة الدراماتورجى، ليكلل براعته فى الصياغة الدرامية بحصوله على جائزة أفضل دراماتورجى بدورة المهرجان القومى للمسرح عام ٢٠١٦ عن العرض المسرحى «روح» من إنتاج مسرح الطليعة.. وزحفت موهبته إلى القطاع الخاص بتجربتى «ألف ليلة وليلة» وياما فى الجراب يا حاوى» للنجم الكبير يحيى الفخرانى.. وفسَّر أبو العينين ازدهار ظاهرة «الدراماتورجى» بندرة النصوص الجيدة والجديدة وقال : «هى ليست منعدمة تماما ولكنها تعجز عن الوفاء بكم العروض المطلوب تقديمها على خشبة المسرح».
وأضاف أن ثمة نصوصا مكتوبة قد تستحق القراءة فقط، وعندما نبحث ترجمتها إلى عمل مسرحى نكتشف أنها لاتُغرى المخرج والممثلين بالشكل الأمثل، فيكون التنقيب عن النماذج العالمية المعروفة والاعتماد على رؤية مغايرة، لا يتقن لغتها ولا يجيد فك شفرتها إلا «الدراماتورجى» انطلاقا من درايته الواعية بمستجدات العصر وتطورات الحقبة الزمنية، وقدرته على التدخل الذكى أو التمصير دون الإخلال بمضمون أو روح النص الأصلى، وأيضا بما يخاطب شريحة الشباب باعتبارها الجمهور الأكثر استهدافا من أى تجربة فنية جديدة.
حافز للتجديد
ورأى أبو العينين أن ظهور «الدراماتورجى» فى الصورة يمثل حافزا للمؤلف المسرحى على مستويين: الأول أنه سيولد نوعا من الغيرة الفنية بداخل المؤلف تدفعه لإعادة التفكير فيما يكتب ويقترب من أسباب انصراف المنتجين أو المتفرجين عن أعماله، وقد يطلع على تجارب «الدراماتورجى» ليتعرف على سر تفاعل الجمهور والنقاد المتخصصين مع إنتاجه واللون المسرحى الذى يقدمه.. وثانيا، تمثل عروض «الدراماتورجى» فرصة لتشبع المؤلفين بأفكار جديدة وتحرك خيالهم نحو آفاق أكثر اتساعا، علما بأن هذا الدراماتورجى ليس بعيدا عن منطق وحرفية الكتابة المسرحية، وقد يكون مفيدا لإثراء مخزون المؤلف المباشر الثقافى والإنسانى.
وبدوره، أقر المخرج المحترف عمرو قابيل كأبرز كوادر المسرح المستقل بأن سببين رئيسيين وراء انتشار فكرة الدراماتورجى هما، سطوع عصر الصورة فى المسرح من خلال تيارات تعتمد على السينوغرافيا والديكور والموسيقى وعناصر الإبهار البصرى، وهو ما أدى إلى العزوف عن مسرح الكلمة والتنازل عن النص المكتوب.. أما السبب الثانى فيكمن فى تراجع الورق الجيد الذى يُلهب خيال المخرجين، ولم يعد لدى المؤلف المسرحى نفس الحضور القوى الذى كان يتمتع به مبدعو الستينات والسبعينات.
وأوضح قابيل أن الرهان الأكبر من جانب المخرجين مؤخرا على القصة القصيرة والرواية والشعر كمنتجات أدبية أكثر خصوبة وثراء من جهود المؤلفين الجدد، إلا أنه شدد على ضرورة الانتصار للكلمة لتسترد عرشها، وأنه لا تعارض أبدا بين قوة النص المسرحى وخيال الصورة.
وأشار أيضا إلى أن فن الدراماتورجى شديد التعقيد والحساسية لأنه يقتضى مهارة خاصة فى الكتابة وذكاء فى هضم مضمون وتفاصيل النص الأصلى ثم نسج خيوط جديدة ومغايرة تواكب العصر وتطورات أجياله، وما يحدث الآن أبعد ما يكون عن جوهر «الدراماتورجى» الذى يمكن أن يصبح دائما إضافة مضيئة إلى مسرح الكلمة واللغة والحفاظ على روح الكاتب وصلب فكرته.
التباس سلبى
أما معسكر «التأليف» فكان له حق الرد على حجج «الدراماتورجى» فقد اعتبر محسن يوسف - ذو الأكثر من ٣٠ نصا مسرحيا و١٣ سيناريو سينمائيا وعدة دواوين شعرية ومجموعة قصص قصيرة - أن وظيفة الدراماتورجى تعرضت لالتباس وفهم خاطئ، نظرا لأنه فى المسارح والسينما العالمية يختلف دور الدراماتورجى تماما عن الوضع فى الوسط المصرى، لأنه يلعب دور المستشار ولا يتدخل فى العملية الفنية إلا فى البروفات النهائية وبعد انتهاء مهمة المخرج، أما نحن فنتعامل مع الدراماتورجى باعتباره «معدا» للنص المسرحى وتلك مغالطة كبرى.
وأوضح يوسف أن الدراماتورجى لن يؤثر على مكانة المؤلف المسرحى بقدر ما أنه يهدد التراث المسرحى ذاته بكل ما تحمله مؤلفاته القديمة من أبعاد تاريخية وثقافية واجتماعية، مشيرا إلى أن هذه الظاهرة انتشرت فقط على سبيل الاقتباس وتحول الدراماتورجى إلى ناقل أو وسيط بين النص الأصلى والمتلقى، وبالتالى فيظل فى وضع أضعف كثيرا من نفوذ وموهبة المؤلف.
واتفق المؤلف أسامة صبحى مع هذ الرأى، مؤكدا أن أحد عيوب السينما والمسرح هو إعداد نصوص مستهلكة منذ «ترويض النمرة» للكاتب الإنجليزى العظيم ويليام شكسبير، وحتى «زقاق المدق» لأديب نوبل نجيب محفوظ، وأضاف أن استحداث مهنة الدراماتورجى وفَّر مناخا للاستسهال وقتل المبدعين، خصوصا وأن أغلب التجارب الناتجة عن هذه الوظيفة أقرب إلى السطحية وعدم النفاذ إلى روح وصلب الفكرة الأساسية.
رابط دائم: