«أريدك ــ فقط ــ أن تمهلنى قليلا لأنهى هذه النار المسكوبة فى جوفي بانتفاضة الجوعي وزقزقة طالبات الثانوي وتحرك الملائكة إلى طابور الصباح
كتب محمد أبو زيد هذا النص فى 2011 وهو لم يبلغ الثانية والثلاثين.. خاطب الموت مبكرا جدا.. هو شاعر ساخر ومتشائم جدا ومع أن الاثنين لايتفقان .. الا ان أبو زيد مزجهما معا بكتابة شعرية متميزة دفعت به لنيل جائزة الدولة التشجعية في الشعر لعام 2021 عن ديوانه «جحيم» قراءة في الديوان واقتراب من عالمه الشعرى الغزير المغاير والمدهش معا
...................
ولد أبو زيد في سوهاج،عام 1980 و تخرج في كلية التجارة جامعة الأزهر، عمل بالصحافة، وقد أسس موقع الكتابة الثقافي، ويرأس تحريره. وأخيرا حصد جائزة الدولة التشجيعية في الشعر 2021م، عن ديوانه «جحيم»، بعد أن نشر العديد من الكتب أغلبها دواوين شعر.
>>>
لا يجد أبوزيد مخاطَبا أنسب من الموت لكي يحاوره، بل هو لا يجرد الموت بعيدا عن لوازمه، إنه يجعل المقابر والجثث في صدارة المفردات التي يبني منها قصائده الكثيرة جدا، فذكره للموت غير معتاد في الشعر المعاصر:
«صهٍ أيها الموت
ماذا تريد بعد أربعة دواوين مفعمة بالجثث
برائحة البارود والجماجم الطائرة
بالدم والسل والطاعون
لم يعد بإمكاني تقديم قرابين أكثر،
تَعِبتْ»
أستطيع أن أقول للشاعر أنت لم تتعب أبدا، أنت أمددتنا بعد ديوان «مدهامتان» (وهو الخامس في حسبتك) بثلاثة دواوين أخرى بعد هذا الديوان هي: «سوداء وجميلة» و «مقدمة في الغياب» و «جحيم»
يضع الشاعر في ديوان «مدهامتان» بضع قصائد تحت عنوان عام «أحفر مقبرتي وأغني» إنها لعبة الغناء مع الموت، أو اللعب مع الموت، لعبة تشبه المحاورة، أو هي محاورة تشبه اللعب، هل عرف الشاعر لعبة الديالكتيك Dialectic
إنها المحاورة الذكية التي يظن فيها أحد الأطراف أنه يملك زمام الحوار والغلبة فيه، لكنه هو الذي ينهزم ويسلم لخصمه برأيه، في محاورة محمد أبوزيد مع الموت مراوغة، فنراه في ديوان «مقدمة في الغياب» الصادر عام ٢٠١٤م، يواصل محاورته الساخرة مع الموت، وكذلك محاوراته مع الشعر، مع القصيدة، التي ستكون أحد أهم موضوعاته، يضاف إليها الأرق والاكتئاب والتشاؤم، ثم يعود الشاعر ليسخر من الموت:
«الموت الذي انتظرته في موقف الباص
تأخر ساعتين، حتى برد النسكافيه
وجاء الشتاء. الموت الذي ربيته خذلني
من أجل من يدفع أكثر»
>>>
يبدأ الشاعر ديوان «جحيم» على نحو صادم لمن لم يعرف شعره، أما نحن وقد خبرنا قاموسه الشعري وموضوعات شعره، فلا نندهش أن نراه يقول في أول صفحة:
«قاطعَ الرؤوس؛/ تجَهْز للخروج/ سنبدأ حفلتنا الليلة»
مثلما يحدث في أدب الفنتازيا، أو بالأحرى في سينما ومسرح اللامعقول The Absurdسنجد أنفسنا مع قصائد ساخرة لكنها تخلط السخرية بالعبث بالتشاؤم، خيال الشاعر جعل الأنواع الفنية والأدبية تتداخل، فأبو زيد روائي وشاعر وكاتب أطفال، وأكاد أقول «صانع أفلام» هو لا ينتجها ولا يخرجها، لكنه يجعلنا نعيش مع أبطالها، هؤلاء الأبطال سوف يجلبهم الشاعر دوما، من التاريخ القديم، ومن أزمنة سابقة على وجوده في العالم، ومن زمن طفولته، يلعب معهم ويدخلنا في تجربة تشبه التنويم المغناطيسي:
«بدون كلمة واحدة
بدون إيماءة من رأس
بدون دمعة تسقط من عين أحدكم، سأفهم
أنا راعي الصمت في البلاد
رب الريشة الطائرة»
في كل قصيدة من «جحيمه» سيأخذك الشاعر إلى عوالم مدهشة أساسها الاستعارة، سوف يضع الأيام في إناء السلق، وسوف نراه يراقب عمره في المنبّه يتناقص، ويلبس ساعة في معصمه يتطاير منها الزمن.
>>>
تجربة محمد أبو زيد الشعرية لا تشبه غيرها من تجارب شعراء الألفية الذين كتبوا ونشروا شعرهم بعد سنة ٢٠٠٠م، الموت والحرب والجثث، سوف تجاورها خنادق ودبابات وبنادق، وكذلك الطائرات والقطارات والقنابل، والحمير ورقصة التانجو والبط والماشية، والخبز والبرتقال والديناصورات، لكن السينما سيكون لها حضور لافت أيضا: داليدا و إي تي و الفيديو جيم، والحديقة الجوراسية، ومسلسلات القناة الثانية.
لابد للقارئ أن يسأل عن الجحيم الذي جعله الشاعر عنوانا لديوانه الأخير، المعنى الذي يشير إليه لفظ «جحيم». إن قصيدة «الحديقة الجوراسية الشعرية» تجري بنا عبر عوالم التخييل المربوط بنمط للحكي من ألف ليلة وليلة أحيانا، لكنه هنا مربوط بعالم السينما «دار الخَيَالة» كما أطلق عليها أول ما ظهرت، يزعم راوى القصيدة أنه باستخدام الهرمونات والDNA سوف يعاد إنتاج الكائنات المنقرضة، ديناصور حقيقي يقرأ الرواية ويحب الشعر، ثم ماذا؟ لك أن تتخيل هذا الكائن وقد حضر ندوة أدبية، ثم:
«يعدل وضع قدمه إذا جاع
ويأكل المقاعد بمن عليها
بينما الشعر ينسال على المنصة»
ثم تنقلب النكتة إلى مأساة، فالديناصور سوف يلتهم الشعراء، ويعيد هو ترتيب عالم الأدب، فينتج ثورة شعرية على هواه! فهل هذا هو الجحيم الذي قصده الشاعر، أن تنتهي المعارك الأدبية بانقراض الأدب نفسه، لتحل الكائنات الضخمة غير العاقلة محل الكائنات الرقيقة، والفن والشعر والأدب؟
وفي «قصة حب أو Love Story or « يتحدث الصوت في القصيدة إلى امرأة لابد أنه يحبها ولكنها بعيدة عنه، فهو يرسل لها هداياه ودلائل حبه وإخلاصه، لكن الرسائل تتوه في الطريق، ثم يذهب العاشق خلف معشوقته يبحث عنها، في الشوارع والبارات، كذلك يمتد بحثه إلى أنفاق الصرف الصحي، ولم يوفق إلى مقابلتها أبدا.
أما في قصيدة «ذئب صغير يتدرب على العواء» فيبدو الجحيم كأن مصدره الخيال السينمائي، تظهر الأسلحة في مدرسة الأطفال، المدنية الأمريكية وحدها تعرف هذا اللون من الدهم بالسلاح في المدارس والمتاجر، لكن الشاعر الذي نشأ في سوهاج، يعرف أنه في أية لحظة قد ينقلب الخيال الغرائبي إلى حقيقة كابوسية مفزعة، لو فكّر أحدهم في العودة إلى تقليد «أخذ الثأر»، هذا الكابوس هو جحيم حقيقي، نرى فيه طفل المدرسة الابتدائية المكلف بأخذ الثأر، يجاهد في حمل حقيبته المدرسية، وقد دس فيها سلاحا قاتلا:
«سنشاهده يبتعد / لآخر مرة / بخطوات رجل عجوز»
محمد أبوزيد شاعر يملك خيالا جامحا، مع قدرة عالية على صياغة الاستعارة، وهو شاعر ساخر، يسخر من كل شيء: الموت، والشعر، والتقاليد الأدبية، والعادات الاجتماعية، لكنه يحترم الخيال والخيال الغرائبي، خيال الأطياف السينمائية، فيستعين بها على صوغ قصائده، فيبدو لنا عابثا، لاعبا، مزّاحا.
رابط دائم: