لم أظن يومًا أن العمل فى إدارة المرور قد يكون بهذا القدر من المتعة. كيف يمكن أن يخالج المرء شعور بالسعادة عندما يرى هؤلاء التائهين وهم يجرون هنا وهناك لإنهاء أوراق وإجراءات ترخيص سياراتهم، أو يحس بالبهجة عندما يشاهد أولئك المكلومين بعد دفعهم غرامات تجعلهم يلعنون اليوم الذى تعلموا فيه القيادة. لا ليست هذه هى المتعة التى أقصد فلست ساديًّا إلى هذه الدرجة! باستثناء بالطبع استمتاعى برؤية الآباء ممن ينتمون إلى (كِريمة المجتمع) وهم يدفعون غرامات مخالفة أبنائهم المدللين لقوانين المرور، فيخالجك شعور لطيف حول تأديب القانون لهم على فشلهم فى تربية أبنائهم.
فى الواقع لقد اندهشت عندما وجدت عامل ماكينة طباعة اللوحات المعدنية مبتهجًا يرحب بى كعامل جديد فى إدارة المرور. أقول اندهشت.. أجل، فما وجه السعادة الناضحة فى ملامح ذلك الرجل الطاعن فى السن أثناء وقوفه أمام آلة صماء تدق أحرفا لا معنى لها وأرقاما عشوائية، وتوزع الألوان بحسب نوع السيارة .. أجرة .. ملاكي.. نقل!
لا شك أننى أغبطه على وقود السعادة والشغف الذى يعمل بهما.. فنادرًا ما يحمل إنسان رضا عن عمل يقوم به، ولاسيما عندما تخرج من بين يديه الخشبيتين لوحة جديدة.. تخرج دافئة لامعة بعد أن يرمقها باستحسان وكأنه فرغ لتوه من رسم لوحة للموناليزا !
سمعته فى ذلك اليوم الذى أكاد أجزم بعده أنه فقد عقله يخبر رئيسه برغبته فى وردية إضافية! حينها أظهر رئيسه تعجبًا لا يخلو من الرثاء، وسعادة لوجود هؤلاء الحمقى الذين ما زالوا يحلمون بمثاليات العمل حتى وإن كان مزعجًا مملًا!
خلال إحدى الورديات الليلية، لا أدرى ما الذى دفعنى لتتبعه، وكأننى على يقين من عدم خلو عمله مما يريب. فإصراره الغريب على العمل حتى وقت متأخرٍ وبصورة مستمرة دفعنى للتنقيب وراءه. وبالفعل، رأيته يقف منتصبًا داخل حجرة طباعة اللوحات ينظر أعلى النافذة التى أتلصص منها، وعلى كتفه يجلس طائر أخضر صغير يكاد بمنقاره يخترق أذن الرجل وكأنما يملى عليه بعض الكلمات، فيردّدها وراءه، ثم تندفع يده لا إراديًا وهو مغمض العينين نحو ماكينة دقّ اللوحات، ليبدأ بالطباعة. تحت وطأة الزقزقة الخفيفة، تندفع يده مرة تلو مرة، تمسك بزراع الماكينة لتدقّ لوحة بعد أخري.بعد أن انتهى لا أدرى متي، وقف معتدلًا يرمق اللوحات تخالجه نظرات النشوة والفرح.
لم يجفل عندما التقت عينانا عبر زجاج النافذة، بل أطرق وابتسم مما حفزنى على أن أتناول بيدى مقبض الباب بسرعة وأدخل مباغتًا كضابط بوليس فى مشهد درامي، وأسأله عمّا يفعل، لم يتردد وهو يقبض على عنق الطائر الضئيل بثبات انفعالى لا يُضاهي، ويضعه فى جيب سترته ويبادرنى قائلًا: «أكتب الأقدار!» لربما حسبت أنه يقصد «الأرقام..لا الأقدار» وظننت أننى أخطأت فى السماع .. «الأقدار» كيف؟ وما ذاك العصفور الأخضر الذى دسسته فى جيبك ولا شك قد اختنق وصار فى خبر كان!
يصيح بى كمن يحمل علم الدنيا أجمع ويصبه داخل ذراع الآلة الصماء فيستحيل أقدارًا مكتوبة .. «لا تخبر أحدًا»..محذرًا إياى بصوته الحازم الأجش، ثم شرع يخبرنى «لو تتبعت الأحرف المكتوبة على اللوحات وبحثت فى حياة أصحابها لوجدت لها صدى ما!»
حسنا ربما أراد بفكرته تلك التى تفيض رعونة أن يلوينى عمّا رأيت – عن طقسه المريب، لكن لا أخفى سرًا أن تلك الأحرف وحدها كفيلة باللعب بعقلى أثناء القيادة ولاسيما حال الانتظار وقت الإشارة «الحمراء» والدخول فى احتمالات كثيرة حول معناها، لكن ليس لدرجة ربطها بحياة ومصير أصحابها!
يظن أنّ لما يفعله معني!.. ليس له معنى سوى فى عرف قانون المرور فقط، هذه لوحات جامدة ليس لها عمل سوى مساعدة الحكومة فى تتبع المخطئ حتى ينال عقابه! أم أنه يريد أن يخلع مهابة زائفة على ما يفعل أو يحاول أن يشتتنى عن جُرمٍ أشد!
لكن أنّى لى أن أثنيه وابتسامته التى تبدو لى بلهاء الآن تخترق ما تبقى من دهشتي.. أنّى لى أن أمنعه وقد سُلّمت اللوحة الآن إلى صاحبها!
ولكى أثبت له سماجة المنطق، تتبعت مصير تلك اللوحة ( س ص ع ) التى طبعها لتوه.. وظللت أتابع الإجراءات مع صاحبها لأرى أين ستأخذه قدماه بعدها. حسنًا، لم يكن ذا شأن كبير عدا هندامه المتناسق وخطواته المحسوبة التى تشعر وكأنه يحمل مسطرة معه فى جيبه. تعجل بالرحيل فخرجت خلفه.. أتحسس وأتلمس مدلول هذه الأحرف عليه؛ بدا لى رجلًا عاديًا شديد النظام، ربما بسبب عمله كمحاسب فى شركة محترمة تليق برب أسرة محافظ يحب أسرته كثيرًا ولاسميا ابنته الوحيدة.
عدت إلى العامل منتشيًا وقد تبدّى لى غباء منطقه، ورُحت أسأله عن مدلول الأحرف، فأخبرنى بما هالنى حقيقة..»(س ص ع) رموز هندسية.. ارجع إلى دروس الهندسة ستجد كل المثلثات تحمل هذه الرموز.. ألم يكن صاحبنا منظمًا ذا خطوات محسوبة .. ألم تتكوّن أسرته من ثلاثة أفراد فقط؟!»
حسنا ولكن ربما هذه مصادفة ليس أكثر؛ قد تصيب وقد تخطئ. أما ولو أخطأ فهو ليس أكثر من معتوه يستحق الرثاء، لا الطرد.. فرغم كل شيء لا تخرج لوحة من تحت يده إلا باتقان منقطع النظير. أما ولو كان مصيبًا.. فلا أدرى ما سأفعل!
والآن لوحة جديدة...
(س ج د ) لوهلة طاف ببالى ملامح من سيحمل تلك اللوحة، إن كان كلام العامل صحيحًا وهو ما زلت أشك فيه، سيكون شيخًا وقورًا يحمل علامات السجود على وجهه.. لكن ويا لفرحي! رأيت رجلًا يتخطى الجموع يمشى مترنحًا يحمل أثقالًا فوق أجفانه ويوارى أسنانًا متهالكة كلما تثاءب بين الفينة والأخري..
قفزت سريعًا فى سيارة أجرة وأنا موقن أنّ بإمكانى الآن إفساد نظرية العامل.. ظللت أتابع الرجل طوال يومه.. لم يركع أو يسجد أبدًا، على العكس كان دائم الشرب سكيرًا ويلعب القمار حتى مطلع الفجر ثم يبيت ليلته فى بيت إحداهن!.. فأين السجود هنا؟!
رجعت إلى العامل منتفخًا بالنصر الآن سيتراجع أمامي، وسأقتل عصفوره الذى يخاتلنى به.. سأهدم قناعته العجيبة أو أننى على بعد خطوات من كشف ستر جريمته.
لكنه حطم انتشائى الذى كدت أبنيه حين أخرج العصفور أمامى كمن لا يرهب شيئًا، وأخذ يشرح لى أن السجود غير حقيقى وإنما رمز للانسياق وراء أهواء الجسد وعدم قدرته على مقاومة الشر داخله.. حسنا أيها المصلح الاجتماعي! ما زال يرسم لنفسه حجمًا أكبر من حجمه! ثم وجدته يقلب الحروف وقال»لو بدلناها لصارت (ج س د) وهو بالفعل يتبع ملذات الجسد لا ارتقاء الروح!»
ألديك كل هذه الفلسفة أم أنك تذاكر معجم (مختار الصحاح) قبل مجيئك إلى العمل كى تختبر كل هذه الاحتمالات؟!
ثم وجدته يضرب إحدى لوحات المزادات (س س س) والتى كانت محسومة بالنسبة إليّ؛ فمثل تلك اللوحات تكون دائمًا من نصيب من يدفع أكثر. بعد أن فرغ من طباعتها، وجدته يطلق ضحكة صفراء يريد بها أن ينثر ما رسمته من أموال بعيدًا عن مخيلتي، وقال «لن يهنأ صاحبها بها طويلًا!»
ماذا؟ أطّلع على الغيب؟! أنّى له بفقرة المنجم الواثق هذه.. أم تلقّى دروسًا على يد أحد المشعوذين أم أنّ عصفوره هذا ليس أكثر من عفريت يمرر له ما يكتب، فيقف أمام ماكينته ويكتب أقدار البشر... أسلوب جديد فى ضرب الودع وقراءة الفنجان! يمكننى أن أفتن عليك وأبلغ إدارة المرور بالجرم الذى ترتكبه. وعندها إما ستحبس كأحد الدجالين الذين يلعبون بالبيضة والحجر أو على الأقل ستفصل من عملك. لكن لا يمكن أن يكون الأمر برمته واقعيًا؛ هناك أحرف بلا معنى ولا يمكن تكوين كلمة منها؛ فماذا عن (س ج م) و(س ص ص)؟
أجل هناك أحرف تحتاج إلى تبديل وأخرى للتمويه وأخرى فاضحة لنفسية صاحبها.. هذا علم كبير لن تقوى عليه ولن تتمكن من الصبر عليه!
هو سارق إذن..
يسرق الأقدار لا أدرى من أين.. يسرقها من عصفوره أو يستجلبها من نسج خياله ثم يصوغها فى شكل القصص. كيف يحيى بهذا السلام الذى لا يفارق على وجهه بعد اطلاعه على أقدار البشر كما يزعم؟ أنّى له التعايش مع هذا الكمّ من القصص بحلوها ومُرّها.. ألا تهاجمه فى كوابيسه؟!
كيف السبيل إلى الإبلاغ عنه والإفصاح بجرمه. وهل هو مجرم حقًا وهو لم يُؤذِ أحدًا.. ولم يُطلع أحدًا سواى على أفعاله؟
كيف لى برأس يهدأ وأنا الآن أرى أقدار الناس تمشى على الأرض!
رابط دائم: