وهو يتحرك أمامنا كغزالة, استطرد المرشد السياحى فى شــرحه قائلا «هــذه هى عيــون موســي.. هنــا كان للنبى موسى ــ هــو أيضا ــ تاريخ أليم معهم!, كانت نقطة قـوية وحصينة من نِقاط مُحصَّنة كثيرة, متناثرة على طول القناة, أطلقوا عليها خط بارليف الحصين!, اقتحمها الجيش المصرى فى الأيام الأولى للمعركة» ومن بين حروف الكلمات المخلوطة بصهد الرمال, تراءت لى خيالات المعارك, وصور الاقتحام والالتحام كما عشتها, وبتلقائية ..التقطتُ الحديث من المرشد السياحي.. وقلت: هــذا الجبل الحصين, من داخله كانت المدافع تعلو وتهبط ــ أوتوماتيكيا ــ لكى تضرب بيوت السويس ومعامل البترول فى الزيتية والأدبية ..!
ثم ســار المرشــد أمامنا , هبط إلى إحدى فوهات الخنادق الثعبانية, التى كان العــدو قد بطَّنها بألواح الفورميكا. ثم تطرقنا إلى الطرقات والسراديب, دخلنا غرف ومكاتب وحمامات وبارات ومرابض للمدافع؛ هــى هــى .. كمـــا تركتها قبل ربـع قرن, ماكينات الحلاقة والبارفانات على الأرفف, والسترات مُعلقة, والطبنجات موضوعة على المكاتب, وأحذية مقلوبة, غرف السلاحليك وكومب ليزونات وسوتيانات أيضا!
تداخلت رحلتنا مع أفراد «رحـــلة أخري» كانت بالداخل , رجــال ونساء وأطفال . معهم مرشـــد آخـــر.
وجــوه شقراء وشعور صفراء وتى شرتات وشورتات, ظهروا كمــا لو أننا قد فاجأناهم, مرشـــدنا الخبير بالسِحَــن والجنسيات قال لهـــم:
شــالـــوم .. ويل كــم
إيماءات باهتة برءوسهم لا تبعث على الأمل بمواصلة الدردشة.
تحركوا... ابتعدوا عنا قليلا أخذوا لهم ركنـــا!
ابتسم مرشدهم لمرشدنا!
قال رجــل منهم يبدو أنه يماثلنى فى السن «عيــــون موســى .. إياكم أن يمر عليكم الاسم كأنه عنوان فى جورنــال…!!
كانت أقوى تحصينات جيش الدفـــاع, اغتصبوها منا فى يوم (كيبور) الأغبـــر»!
وكأن الرجل قد استدرك خطـأ صــدر منه, راح يتمتم كأنه يصلي, ثم واصل حديثه, قال لطفل يمسك بيد أمه «نهـــر النيل.. هــل تعرفه؟, هـــو قريب من هنـــا, فقال الطفــل: وأين الفــرات يا أبي؟»!!
عادت ذاكرتى إلى الوراء , كل هــذه السنين, حينما وقعت عيناى على تلك الأسماء التى كنا قد حفرناها بسناكى البنادق, على ألواح الفورميكـــا المُبطن بها الجدران, فى استراحة المحارب, بعد وقف إطلاق النار!
جاد قناوى جاد ..من نجع حمادي.. ليسانس آداب
شنودة واصـف غبرائيل .. من شبرا مصر. بكالوريوس هندسة.
عبد الحفيظ حامد عبد الجواد.. من ديرب نجم, بكالوريوس زراعة
اقتربنا منهم, تداخلنا بين الـــ «تى شرتات» و«الشورتــات», والعرق المُعتق, ابتعدوا عنا, أخذوا لهم ركنا!
ابتسم مرشدهم لنا ابتسامة حملت معنى فهمناه.
فى تلك اللحظات تداعى لى من عمــق الذاكرة.. يــوم أن باغتناهــم فى تحصيناتهم : عبـــق من رائحة سُــكر وعَــرَق مُنتِن , يَنز من لحــمٍ عارٍ أبيض مختلط , يُعربـد داخل الدشم فى يوم «غفرانهم»!!, يتداخل هذا العبق المنتن مع رائحـــة بارود وبخار دم أزرق لايريد أن يتجلط أبــدا .
تعجبتُ من أمـــور هــذا العالم, هؤلاء معنا الآن؟ وفى نفس المكان؟, وبلا سناكى ولا بنادق؟
خرجت الوفود من دهاليز الحصن, صعد الجميع إلى الفضاء , تفرقنا على الرمال حول الحصن, ترك الطفل يد أمه, راح يلعب ويخطط فى الرمال الصفراء الناعمة, وهو يغرف بالجاروف البلاستيك, خرجت فى يده جمجمة!
جرى الرجل نحوه, أخذ منه الجمجمة, راح يتفحص فيها, ثم قال: ربما هى رأس شاحال أو ناعوم.. كانا جيرانى فى المستعمرة , وقُتلا هنا فى عيون موسي. لكننى أنتزعتها منه, حفرتُ حفرة عميقة.. قلت : هى من حق التراب, فلم يعد لها ملامح شاحال ولا تقاطيع محمد.
رابط دائم: