يشهد العالم حاليا ميلاد أنواع مستحدثة من الأنشطة الاقتصادية، بفضل تكنولوجيا المعلومات وثورة الاتصالات. ولا يكاد يمر يوم دون أن تزف إلينا مواقع متخصصة خبرا بشأن تطبيق إلكترونى جديد يخدم غرضا مبتكرا، أو يخلق فرصة للكسب لم تخطر على بال أحد. ومنذ أيام، بدأ الترويج لأحدث هذه التطبيقات ويعنى بتيسير فن الكتابة على المبتدئين، ومساعدة المؤلفين المحترفين على النهوض بمهمتهم. فهل تصبح مهارة القصص عملا آليا بحتا يوما ما ؟.. فى السطور التالية، يتناول برند ديبوسمان، محرر شئون المال والأعمال فى هيئة الإذاعة البريطانية «بى.بى.سي» هذه القضية من مختلف جوانبها.
عقدة الموهبة والحرفة
تظهر الأرقام الإحصائية لمنظمة التربية والثقافة والعلوم «يونسكو» أن العالم يشهد نشر مليونين و٢٠٠ ألف كتاب جديد سنويا فى المتوسط، وهو عدد هائل. ويشتمل هذا الرقم على كتب تصنف كأعمال روائية أو غير ذلك من الموضوعات. ويتطلع كثيرون من مختلف الأعمار للانضمام إلى الركب، بغض النظر عن المقومات الشائعة اللازمة لذلك. فهل يمكن أن تصبح الكتابة بهذا اليسر حقا؟.
فى أواخر القرن التاسع عشر، قال الروائى الأمريكى الشهير مارك توين: «من ولد محروما من موهبة الكتابة القصصية سيعانى الأمرين إذا حاول يوما ما أن يكتب رواية. ينقص هذا الشخص وضوح الفكرة عن القصة التى بين يديه. وواقعيا، يمكن القول إنه لا يملك قصة من الأساس». كلمات قاسية الوقع على من يتطلعون لاحتراف الكتابة، ولكنها تعبر عن عصر يبدو أنه ودع عالمنا أو يشرف على ذلك. وحتى نهديء من روع الطموحين، لننظر إلى عبارة أخرى على لسان الكاتب البريطانى ستيفن فراي: «المؤلف الناجح هو من يدرك تمام الإدراك مدى صعوبة إعداد كتاب».
وتتطلب الكتابة القصصية خطوطا عريضة لحبكة أو أكثر، وأفكارا، وشخصيات تتطور بتقدم الأحداث وتصاعدها إلى القمة، ثم تراجعها تدريجيا وصولا إلى كلمة «انتهت» فى خاتمة العمل. ويتعين على الكاتب أن يبدأ برصد هذا كله كمخطط عام أولى، ثم يشرع فى البناء (السرد) بأسلوبه الخاص الذى يميزه عن غيره. وفيما بين البداية والنهاية، يعيد المؤلف الكتابة بغرض التنقيح والتصحيح أملا فى الوصول إلى الأفضل. مهمة شاقة بلا شك، وتحتاج إلى ذاكرة حديدية، ووقت مفتوح، ومصدر آمن للرزق!. وبفضل أحد تطبيقات التكنولوجيا الحديثة، باتت معالجة هذا كله أيسر كثيرا مما كان عليه الحال فى عصر توين، وفراى، ونجيب محفوظ. وكالمعتاد مع كل مستحدث، يولد الاختراع من رحم المعاناة لحل مشكلة بعينها، ويواجه بمعارضة شرسة حتى يثبت وجوده. لنر.
منصة رقمية للكتابة
مدفوعا برغبة شخصية، قرر الأمريكى مايكل جرين ويعمل فى علم البيانات ونظم الحاسب أن يغير مساره المهنى ويتحول إلى مؤلف روائي!. وبالفعل، شرع فى رواية معقدة البناء، وأحس بقرب ضياع خيط العمل منه، بعد أن بلغ عدد صفحاتها ٥٠٠ تقريبا. ويقول: «فى خضم تحرير الرواية، شعرت بأنه أصبح لدى أكثر من حبكة، وكثير من الشخصيات، وأنه على أن أتعمق فى العالم الذى أبنيه استنادا إلى المخطط الأولى الضخم الذى أعددته لهذا كله. ومن ثم، خشيت أن أفقد السيطرة على العمل ككل، فقررت الاستعانة بعقلية علم البيانات الذى تعلمته لحل مشكلة مركبة ومختلفة المكونات».
ابتكر جرين منصة رقمية أطلق عليها اسم «لينيت»، تساعد المؤلف «إلكترونيا» على نسج مختلف عناصر الرواية من حبكة وشخصيات وأحداث، وتخطيطها والاقتراب من تصويرها وفقا لخياله. إلا أن لينيت مازال فى مرحلة التشغيل التجريبى، ويتولى هذه المهمة باقة من الكتاب والمؤلفين، لديهم الحرية فى استخدام هذا التطبيق لرسم الأحداث، وتحديث قوالب العرض الإلكترونية المختارة مهما كانت درجة تداخلها، إلى جانب خرائط القصة الأولية. ويؤكد جرين أن التطبيق ييسر على المؤلف تطوير فكرته العامة التى بدأ بها، والشخصيات المختارة عن طريق ضخ ما يستجد فى مكانه المحدد. وهكذا، يتقدم العمل خطوة وراء أخرى. وبورود أفكار جديدة، يمكن للكاتب التغيير والحذف واستحداث تفاعلات وعلاقات لم تدر بذهنه عند الشروع فى العمل.
وفى مرحلة ما، تنتهى الرواية وينشر العمل فعليا، ليبدأ الكتاب فى التواصل مع قرائهم والتفاعل معهم عبر وسائط التواصل الاجتماعى المعتادة. يتبادل الجانبان الرأى، ويشعر المؤلف بالرضى أو يتملكه الغضب. لا يهم. ولكنه لم يحقق أى دخل يعوضه عن تلك الساعات!.
مدرسة لتعليم الكتابة
يقول خبراء الاقتصاد: «إن العرض يخلق الطلب أحيانا». استنادا إلى هذه القاعدة، ابتكرت شركة هايتايد المتخصصة فى البرمجيات ومقرها شيكاجو تطبيقا يتيح للكتاب حضور جلسات حية، مدفوعة الأجر، مع قرائهم. يوجه القاريء السؤال ويجيبه الكاتب فيحقق دخلا لا بأس به، يعوضه عن ساعات من الدردشة مع القراء بلا عائد. أما موضوع الجلسات فيدور فى الأغلب الأعم حول مهارات الكتابة للراغبين فى تعلم هذه الحرفة, «الشريحة المستهدفة بالعرض». يختار مستخدم التطبيق كتابا ما ويدور الحوار حوله ويتفرع منه إلى قضايا ومفاهيم تتصل به فتتسع معارف الكتاب المحتملين، إلى جانب الإلمام بعملية الكتابة ذاتها. ويتيح التطبيق لمستخدميه ميزة اختيار موضوع الجلسة. وبالإضافة إلى ذلك، ستتاح لهم الفرصة للمشاركة فى جلسة مميزة مع مؤلف عمل ما حقق شهرة واسعة، عكستها أرقام مبيعات قياسية.
إحياء القراءة
نتيجة لتوسع القراء فى استخدام الكتاب الإلكترونى، ومعاناة الكاتب المبتديء فى توصيل فكرته، لوفرة المعروض من الكتب، ابتكرت شركة كريزى ميبل ومقرها كاليفورنيا أربعة تطبيقات فريدة من نوعها. وتضيف هذه التطبيقات مؤثرات صوتية، وأغان، ورسوما متحركة، وألعابا إلكترونية للنصوص حتى يقرر القاريء ماذا تفعل الشخصيات بوضوح. ويقول جوى جايا مؤسس الشركة وكبير مدرائها: «إن الثورة الإلكترونية، والطفرة فى عدد القراء بفضلها، حققت نقلة فى صناعة النشر. فقد حدت من التأثير السلبى المعتاد لمسئولى النشر. ولكن الأمر لم يتخط هذه المرحلة». ويضيف أن الكتاب باتوا يلجأون بصورة متزايدة إلى التقنيات الحديثة لمواجهة المنافسة الشرسة فى سوق يعج بالقراء المحتملين الذين تتاح لهم اختيارات واسعة لتمضية أوقات الفراغ.
وبرغم هذا الاتجاه، يحذر خبراء الكتابة من خطورة التوسع فى الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة الموجهة لمساعدة الكتاب. وترى مليسا هيفمان وتعمل فى مجال التحرير من الباطن والتدريب على التأليف, أن الاعتماد على هذه التقنيات المبتكرة يشتت الذهن، ويضيع الوقت، والجهد. وتوصي: «ابحث عما ينفعك ويناسب شخصيتك وأنماط الكتابة الطبيعية. فأحيانا ما يسقط المؤلفون ضحية لفخ تجريب كل شيء على أمل الوصول بعملهم إلى مستوى الكمال. وفى واقع الحال، يتبين لهم أنهم حادوا عن بؤرة تركيزهم الأساسية».
وفى المقابل، يرى مايكل جرين مبتكر تطبيق لينيت، أن التكنولوجيا الحديثة ستسود أكثر وأكثر مع زيادة أعداد عشاق التقنيات العصرية بين جيل كامل من الكتاب الجدد، إذ يعتبرونها مصدرا للتوجيه والتعلم وليست مجرد عبء إضافى كما ترى السيدة هيفمان.
رابط دائم: