منذ حصوله على جائزة نوبل للأداب عام2017 ؛ حلت لعنة الصمت الأدبى على الروائى البريطانى اليابانى الأصل كازو إيشيجورو الذى يبدو أنه كان يبحث جاهدا عن عمل لافت يعود به إلى الساحة الأدبية يتناسب وحصوله على نوبل. هذا الصمت قطعه إيشيجورو بمفاجأة حملتها روايته الجديدة كلارا والشمس، التى تصدرت أخيرا القائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية، وناقش فيها قضايا أخلاقية واجتماعية مختلفة بشأن مستقبل البشرية فى ظل التطور التقنى والزحف المستمر لتقنيات الذكاء الاصطناعى وتحرير الجينات. وهى قضايا تثير الانقسام والجدل داخل المجتمعات المختلفة.
تتناول الرواية، التى تدور أحداثها بالمستقبل، العلاقة بين كلارا، «صديقة اصطناعية»، والطفلة جوزى (14 عاما)، التى تشترى والدتها كريسى كلارا لتكون رفيقة لابنتها لمساعدتها خلال فترات المرض . هذا المستقبل القريب الذى يبدو قاسيا جدا، يتسوق فيه الأطفال بحثا عن الأصدقاء، ويصبح لدى الآباء الأثرياء خيار إخضاع أطفالهم لعملية تعرف باسم «الترقية أو التعزيز» ، وهو تحسين جينى يمنح رأس مال اجتماعيا يرتبط بالقبول بالجامعات وإمكانيات التوظيف، وقد أدى ذلك إلى مجتمع أكثر انقساما بشكل صارخ بين من يملكون ومن لا يملكون. هذا الإجراء لا يخلو من المخاطر، حيث تسبب ذلك التلاعب الجينى فى مرض جوزى وأودى بحياة أختها الكبرى.
يتم تعليم الأطفال الأثرياء الذين تم تحسينهم بالمنزل ويكتسبون مهارات التنشئة الاجتماعية واللعب فى « اجتماعات التفاعل»، حيث أصبحت المدارس شيئا من الماضى، وذلك لإعدادهم للكليات المشغولة حصريا بالجينات المعززة. أما غير المعززين، مثل ريك، جار جوزى وصديق طفولتها، فمقدر لهم أن يصبحوا طبقة دنيا، مستبعدة من التعليم وتحل محلها العمالة الآلية.
تعيش شخصيات الرواية بعالم مخيف غير مؤكد وغير عادل، لكنهم متساوون معه إلى حد ما طالما أنهم يحتفظون بنوع من الأمل بالبقاء على قيد الحياة، رغم اختلاف توجهاتهم فى وضع إيمانهم بالتعليم أو التكنولوجيا أو الطبيعة البشرية. فى المستقبل الذى يرسم إيشيجورو ملامحه هنا؛ تبرز بشدة التداعيات والجوانب الأخلاقية المرتبطة بقضايا خلافية مهمة مثل الذكاء الاصطناعى، وتحرير الجينات، والبيانات الضخمة حتى أثناء التعامل مع الحقيقة غير القابلة للتغيير وهى أننا حتما سنموت.وكذلك الآثار المترتبة على عدم المساواة عندما تغير طبيعة الرأسمالية نفسها لتتكيف مع تطورات العصر، ليعبر عن قلقه حول فقدان البشر السيطرة على تلك الأشياء. ورغم ذلك فإن الظروف التى تخيلها إيشيجورو هى أيضا انعكاسات لمجتمعنا، حيث تشكل الثروة والامتيازات بالفعل فرص الحياة. كما لا يتجاهل تأثير تناقضات الحب الأبوى.
تتبع الرواية كلارا،الصديقة الاصطناعية التى هى كائن آلى يشبه طفلا بشريا مصمما للتخفيف عن الأطفال الوحيدين، طوال دورة حياتها تقريبا من المتجر إلى الحياة مع أسرتها بالتبنى انتهاء بالتلاشى البطيء . فى أعمال إيشيجورو السابقة كان الرواة عادة يتأملون فى ماضيهم لمراجعته. تأتى كلارا، على النقيض من ذلك، هى تتطلع للمستقبل. لديها منظور الطفل المنفتح على اكتشاف العالم من حوله. ترى أشياء لا نراها، وتتعلم كيف تصبح بشرية وكيف يمكن أن «تحب وتشعر » لتتقاطع فى ذلك مع إحدى القضايا المركزية فى أعمال إيشيجورو وهى كيف يمكن أن يكون الفرد إنسانا وبشريا .
يخلق صاحب نوبل عالما نراه من خلال عيون كلارا التى تعمل على فهم البشر، بينما تعمل فى نفس الوقت على عدد متزايد من المشاعر الخاصة بها. كما يقول الفنى الخاص بها للعميل بالمتجر: »تتمتع كلارا بالعديد من الصفات الفريدة . ولكن إذا اضطررت إلى التأكيد على واحدة فقط، يجب أن تكون شهيتها للمراقبة والتعلم». هذا ما يجعل كلارا راوية كلاسيكية مثالية لإيشيجورو. فهى مراقبة سرية داخل أسرة مضطربة، مطلعة على الأسرار المنطوقة وغير المعلنة. إنها أشبه بطفلة متبناة، لذا تعمل بجد لفهم عائلتها الجديدة ودورها فيها. يجب أن تتعامل كلارا مع العديد من البشر حول جوزى الذين لديهم تصميمات أخرى مثل والدتها ووالدها المنفصل عن والدتها، مهندس تم فصله من وظيفته و«استبداله« بالروبوتات لكنه يعتقد أنه أصبح أفضل حالا ويعيش مع جماعة ذات ميول »فاشية«، وريك، جار جوزى وصديقها المقرب الذى كان سييء الحظ ولم يتعرض للتحسين، يحب جوزى لكنه حذر بالبداية من كلارا.
الوحدة إحدى المشاعر المميزة التى تحللها روايات إيشيجورو، كلارا هنا لديها العديد من الفرص لمراقبة الاستراتيجيات التى يبتكرها البشر لمحاربة الوحدة وإخفاء الضعف.كما تدرك كلارا كيف أن »البشر، فى رغبتهم بالهروب من الوحدة، قاموا بمناورات معقدة ويصعب فهمها.« المشاهد الأخيرة بالرواية، التى تروى الفترة التى تلت انتهاء خدمة كلارا وتلاشيها البطيء كبطارية مستنزفة، تدور حول ثمن تلك المناورات.
صممت كلارا لتكون أشبه بوالدين آليين، لرعاية جوزى، لكنها تكتشف أيضا أنها طفل بديل محتمل بالنسبة لوالدة جوزى التى تسعى لتحل كلارا محل ابنتها وهى مفاجأة تتكشف رويدا رويدا مع تداعى الأحداث قرب منتصف الرواية. تعانى والدة جوزى مشكلة مع مرض ابنتها فهى تشعر بالذنب تجاهها كما تشعر بالفخر الرأسمالى بها ولكنها فى نفس الوقت تشطح بتفكيرها لاستبدال ابنتها بعد وفاتها بنسخة مثالية منها، وهى محاولات تزعج كلارا بشدة وتشعرها بأن الوضع ليس كما يفترض أن يكون. حيث تأخذ والدة جوزى كلارا فى نزهة بالشلالات تاركة جوزى. مما يفرض حالة من التوتر على علاقة جوزى وكلارا فتبذل كلارا الجهد لاستعادة دفء علاقتهما . كما تختبر الأم كلارا لمعرفة ما إذا كان بإمكانها تقليد حركات جوزى وأنماط الكلام. وتدفعها لارتداء منحوتة لجوزى ثلاثية الأبعاد، لتثار تساؤلات عما إذا كانت كلارا، التى عرض عليها خيار استبدال الإنسان الذى من المفترض أن تحميه وترعاه، فهل ستأخذه ومعه كل هذا الحب؟ وإذا كان يمكن للروبوتات أن تحل محلنا فى حياتنا العملية - فهل يمكن أن تحل محلنا فى حياتنا العاطفية أيضا؟
تصبح كلارا مصممة على حماية جوزى والحفاظ عليها وليس استبدالها. طورت كلارا، التى تعمل بالطاقة الشمسية، شكلاً من أشكال عبادة الشمس المتدينة، وخلصت إلى أنها إذا قدمت القرابين الصحيحة للشمس، فقد تكون قادرة على علاج جوزى. ربما تكون النقطة المهمة هى أن الروبوتات، إذا كانت تسعى لتقليد البشر، فسوف تبحث عن إله يمتلك قدرات مطلقة أيضا. هذا الإيمان، إذا صح التعبير، يصبح الأساس الثابت لحياة كلارا .بدأت كلارا فى بناء رؤية للعالم - نشأة الكون - حول إلهها . لذا تصلى كلارا للشمس: »أرجوك، اجعلى جوزى أفضل.. ما زالت جوزى طفلة ولم تفعل شيئا قاسيا ».
تثير الرواية تساؤلات عدة مثل ما الذى يمكن للذكاء الاصطناعى أن يضيفه للموت البشرى وكيف يمكن أن يستفيد منه؟ وما الذى يمكن أن يصنعه الذكاء البشرى للتهرب من الموت كمصير محتوم؟ وكيف يقوم البشر بقمع اليقين حول الخوف من فنائهم وانقراضهم؟ وما هو مقدار الاختيار الذى يمتلكه أى منا فى الأشخاص الذين نحبهم؟ وكيف يمكن أن يكون الحب متجردا من الأنانية؟ كما فعلت كلارا مع جوزى ربما أكثر من نظرائها من البشر. قد تكون كلارا صديقة مصطنعة، لكن صداقة كلارا مع جوزى هى التى أعطت قصتها معنى حقيقيا فى مجتمع تخلى عن أى تمييز واضح بين المصطنع والحقيقى .
رابط دائم: