«فتح دكان لبان وكان يمر عليه كل يوم بعد فراغه من عمله الرسمى، وكان يراجع حساباته، ثم فتح دكان بقال، وعندما سئل عن سبب اقدامه على هذه العمليات قال: اننى أهدف منها أن اظهر للعالم ان أى تجارة مهما ضؤل شأنها ليست عيبا، وبعد أن نجح دكان اللبان ودكان البقال تنازل عن ملكيتهما بدون مقابل لعمال المحلين»، جاءت تلك التصريحات من جانب رائد الاقتصاد الوطنى، محمد طلعت حرب، ضمن ملحق خاص نشرته «الأهرام» فى 31 أكتوبر 1964 بمناسبة الذكرى الـ23 لوفاته. وسلطت تلك التصريحات الضوء على الأساس الذى بدأ منه طلعت حربه مشروعه الاقتصادى القومى والذى أحدث طفرة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية وحتى الفكرية فى مصر.
شهد قصر الشوق بمنطقة الجمالية مولد طلعت حرب فى 25 نوفمبر 1867، وبعد تخرجه فى مدرسة الحقوق، عمل محامياً بقسم قضايا الدائرة السنية، وبسبب أن الدائرة كانت مرهونة لسداد الديون المصرية، فتمت تصفيتها فى عهد الخديو إسماعيل (1830-1895)، وخرج منها حرب وهو لا يملك سوى أربعة بنتو، وهى عملة ذهبية فرنسية تعادل ثلاثة جنيهات مصرية فى ذلك الوقت وفقاً للأهرام، واستطاع أن يلتحق بالعمل فى الشركة العقارية المصرية، وتدرج فيها حتى شغل منصب مدير الشركة.
فى يوم 5 أبريل 1920 بعث طلعت حرب برسالة إلى صحيفة «الأهرام» بمناسبة البدء فى تأسيس أول بنك وطنى بمصر، ورد فيه «حضرة الفاضل رئيس تحرير جريدة الأهرام، بعد التحية والاحترام، يصدر اليوم المرسوم السلطانى بتأسيس البنك برأس مال أولى قدره ثمانون ألفا من الجنيهات المصرية، وسيدعى قريبا المساهمون لجمعية عمومية لتقرير زيادة رأس المال إلى الحد اللائق بمثل هذا العمل الذى أعده ويعده كل مصرى خطوة أولى لاستقلالنا الاقتصادى، فنرجو أن تزفوا هذه البشرى لمواطنينا ليطمئنوا على مشروعهم وليستعدوا لتحقيق آمال البلاد فيهم بالإقبال على الاكتتاب العام حينما يدعون إليه فى القريب العاجل..محمد طلعت حرب».
وُلدت الفكرة واستقرت لدى طلعت حرب منذ عام 1908 عندما كانت مصر لاتزال تحت الاحتلال البريطانى، وبرغم من نجاحهم فى زرع الوهم داخل نفوس المصريين بأن بلادهم لا تصلح لشيء سوى الزراعة، وبأنها تفتقر لمقومات الصناعة من مواد وعقليات ومهارات، إلا أن طلعت حرب ذا الأربعين عاماً فى ذلك الوقت، لم يأبه لذلك كله وطالب بنهضة شاملة تبدأ بإنشاء بنك يديره المصريون بأموال مصرية. ودعا لفكرته طوال سنوات عن طريق الكتابة فى الصحف، وفى عام 1910 نشر كتابا بعنوان «علاج مصر الاقتصادى ومشروع بنك المصريين أو بنك الأمة». وظل يثابر ويدعو وينادى حتى حدثت ثورة 1919 وانتهز حرب الفرصة وحاول جمع رأسمال المشروع، وكان الطلاب من أكثر المواطنين حماساً له، وطلبوا منه أن يبيع لهم أسهم البنك بالتقسيط ووافقهم، مما زاد من حماسهم لدعوة المصريين للمساهمة فى المشروع، حتى جاء يوم 7 مايو 1920 عندما أعلن طلعت حرب مولد بنك سيحدث ثورة اقتصادية فى مصر، وكانت من شروطه أن يملك اسهمه المصريون، وتكون اللغة العربية هى لغته الأساسية، وكانت هذه بداية لعدة مشروعات اقتصادية محورية مثل تأسيس شركات مصر للطيران والغزل والنسيج وستديو مصر.
ورغم هذا الانجاز، إلا أنه بعد عدة سنوات اصطدم البنك ومؤسسه بسيل من الاتهامات والنقد، وذلك لحدوث عجز فى قيمة أصوله يزيد على أربعة ملايين جنيه، مما أدى إلى صدور قرار يوم 30 مارس 1940 يتضمن «قبول استقالة صاحب السعادة محمد طلعت حرب باشا من عضوية مجلس الإدارة مراعاة لصحته بدءا من 14 سبتمبر 1939»، وقام عدد كبير من السياسيين والمفكرين والصحفيين بالدفاع عن طلعت حرب، مثل السياسى والمفكر فتحى رضوان (1911-1988) الذى انحاز بشدة لحرب فى كتابه «طلعت حرب..بحث فى العظمة» ورأى أن التاريخ لا يمكن أن ينكر فضل هذا الرجل وسيظل يعامله معاملة الأبطال والعظماء، إلا أنه حاول التزام الموضوعية وأورد فى كتابه بأن طلعت حرب أخطأ فى الاستئثار بالرأى والانفراد به، وأن كبار معاونيه لم يكونوا فى مستواه.
وقد جاء الوداع المحدود البسيط لحرب عند وفاته ليثير انتقادات واسعة. فتحت عنوان «طلعت حرب باشا»، خرجت الأهرام فى العدد الصادر بتاريخ 14 أغسطس 1941 لتعلن عن وفاة أبو الاقتصاد المصرى، وهذا بعض ما ورد فى التقرير «فقدت مصر أمس ابنا من أبر أبنائها بها، ورجلا فذا كان فى الطليعة بين الرجال العاملين، هو المغفور له محمد طلعت حرب باشا، فعم لفقده الأسى، وكان لنعيه رنة حزن وأسف تردد صداها فى أرجاء البلاد جميعا، وقد أمر سعادة حافظ عفيفى باشا بإقفال ابواب البنك .. من الساعة التاسعة الى الساعة التاسعة والربع صباح اليوم حدادا على الفقيد، كما أمر بتنكيس العلم على دار البنك فى اثناء تشييع الجنازة من الساعة العاشرة الى الساعة الحادية عشرة صباحا».
وقد ثار غضب كثيرين من محبى طلعت حرب، ومنهم الشاعر الصحفى كامل الشناوى (1908-1965) الذى كتب فى عموده «خواطر مقيدة» بالأهرام، ومما جاء فيه «ومات طلعت حرب فكم كان عدد مشيعى جنازته وحاضرى مآتمه، أنهم لم يبلغوا ألفا فى أكبر تقدير، ولو شيع الجنازة كل الذين كان لطلعت حرب فضل خاص عليهم، لأربى عدد المشيعين على الثلاثين ألفا، ولو شيعها كل من كان لطلعت حرب فضل عام عليهم، لوجب أن يشيع الجنازة سبعة عشر مليونا، ياقلة رصيدنا من الوفاء، بل ياضيعة هذا الرصيد».
رابط دائم: