-
إبراهيم الخولى: جمهورها لا يزال حاضرا
-
د. أحمد زايد: أحد أشكال التباهى وإبراز المكانة الاجتماعية
إذا كان الشعر ديوان العرب، فإن صفحات الوفيات التى تنشر فى كبريات الصحف العربية وعلى رأسها «الأهرام»، هى ديوان المجتمع، حيث تتجاوز تلك الصفحات فى أهميتها، فكرة نعى الأموات، والمجاملات الاجتماعية فى المآتم والأحزان، تلك التى عرف بها المصريون على مر الزمان، إلى كونها تعد نافذة حقيقية للباحثين والمراقبين، تمنح إطلالة دقيقة على العالم الحى، وترصد طبيعة العلاقات الصاعدة والهابطة فى المجتمع، على نحو يجعلها تمثل ديوان الحياة الاجتماعية المعاصرة فى مصر.
على مدى عقود، مثلت صفحات الوفيات فى «الأهرام»، حالة متفردة بين كثير من الصفحات المشابهة فى العديد من الصحف العربية، اذ ظلت تلك الصفحات تمثل فى حقيقتها، نافذة مفتوحة على المجتمع، ترصد علاقاته المتشابكة، وعلاقات النسب التى تربط بين فئاته المختلفة، الى جانب شبكات المصالح المتبادلة بين العائلات، على ما يمنحه ذلك للباحثين من فرص، لقراءة شكل المجتمع والتغييرات التى تطرأ عليه، صعودا وهبوطا، للدرجة التى ساد معها خلال فترة من الفترات قول شهير يقول: «من لم ينشر نعيه فى الأهرام لم يمت»!.
ارتبطت صفحات الوفيات بـ»الأهرام» منذ السنوات الأولى لصدورها، حيث دأبت بعض العائلات الكبيرة، على نشر نعى وفياتهم، ومشاطراتهم العائلية على صفحاتها، وهو ما يمكن رصده بسهولة، عبر تاريخ طويل، لتتربع صفحات الأهرام، على عرش صفحات الوفيات، ليس فقط على مستوى مصر ولكن فى الشرق الأوسط، ومنذ ذلك الوقت حتى اللحظة الراهنة، أصبح نشر نعى بصفحة الوفيات بالأهرام عادة لدى شريحة كبيرة من الناس، مع صدور شهادة الوفاة، ومما يروى فى أهمية تلك الصفحات، انها استخدمت فى زمن الحرب مع إسرائيل، بعد نكسة ٦٧ مرورا بحرب الاستنزاف حتى نصر أكتوبر ٧٣، كاحد المصادر الاستخباراتية، لجمع معلومات عن أفراد بعينهم، عبر تتبع الإعلانات المنشورة فى صفحة الوفيات.
وفيات الأعيان
يروى المؤرخ الكبير الراحل الدكتور يونان لبيب رزق، فى مقال تحت عنوان «وفيات الأعيان»، أن عام 1884 وهو العام الذى ظهرت فيه صفحة الوفيات فى الاهرام، خرجت الصفحة التى اكتسبت شهرة واسعة، بأعمدة محدودة، فى الجريدة التى لم يكن عدد صفحاتها يزيد على أربع، قبل أن تتحول مع الأيام إلى صفحة كاملة، وينتهى بها الأمر إلى صفحات عديدة، حيث بدأت بعمود فى الصفحة الثالثة، تكرر ظهوره عام 1884، إلا أنه لم يلبث أن اكتسب شكلاً من الثبات، ومع مرور الأيام، ومع زيادة عدد الصفحات أخذت مساحته فى الاتساع، حيث ارتبط استمرار تلك المساحة، باستمرارية الأهرام التى أكسبته قدراً من العراقة، لم يتوافر لصحف أخرى كثيرة، ويؤصل المؤرخ الكبير الراحل، تلك الأهمية التى اكتسبتها صفحة الوفيات بالأهرام، انطلاقا من القاعدة التاريخية للعلاقة بين الانسان، خاصة المصرى والموت، فقد سعى المصريون دائماً لتخليد ذكراهم، فى الصروح الكبيرة التى لا تخضع لعاديات الزمن، ويقول: «إذا كان أجداد المصريين قد ذهبوا فى هذا الصدد إلى بناء أهرامهم الخاصة، فليس غريباً أن يذهب أحفادهم، فى تخليد ذكر من يرحلون إلى أهرام آخرى تمثلت فى «الصحيفة» التى نشرت فى إعلان الوفاة الأول عبر صفحاتها ما نصه: «تحتفل عائلة عطا الله، بالجنازة عن نفس فقيدها المرحوم نجيب خليل عطا الله، بكنيسة الروم الكاثوليك، وهى تستدعى الأصدقاء والأحبة بواسطة هذا الإعلان، عوضاً عن النشرة العادية للحضور فى حفلة الصلاة»، قبل أن تنشر بعد أيام النعى الثانى لأحد كبار الوجهاء فى مصر حينذاك، وكان نصه: «نقلت إلينا أخبار بيروت، نعى المرحومة فرنسيس مسك، شقيقة جناب الخواجة يوسف نصر، وفى صباح غد يحتفل جناب شقيقها بالجنازة عن نفسها فى كنيسة الروم الكاثوليك فى ثغرنا، وهذا الإعلان يقوم مقام النشرة الاعتيادية للحضور فى حفلة الصلاة».
خارج المنافسة
لم تتأثر صفحات الوفيات بالأهرام حسبما يقول إبراهيم الخولى مدير عام الإعلانات المبوبة فى الأهرام، بالمتغيرات السريعة التى تعرضت لها سوق الإعلانات فى مصر خلال الفترة الأخيرة، ويقول بعد مرور 38 عامًا من خبرته فى العمل بمجال الإعلانات فى الأهرام بشكل عام: صفحات الوفيات بالاهرام، لم تتأثر بتلك التغيرات الدرامية فى سوق الإعلانات المصرية، ولا تزال تحظى بنفس القدر من الأهمية، لدى قطاع كبير من المعلنين، إذ لا تزال تلك الصفحات تلعب دورّا كبيرا، فى تعزية ومشاطرة الأهل والأصدقاء والأحباب أحزانهم، فى انعكاس واضح للطبيعة المصرية، التى تعد مشاطرات الأحزان والمناسبات المختلفة، جزءًا أصيلًا من عادات وتقاليد، قطاع غير قليل من مختلف الطبقات الاجتماعية، من الوجه البحرى حتى صعيد مصر، ويضيف الخولى: تتجلى هذه الظاهرة بشكل أكبر وأوسع بين عائلات الصعيد، حيث إن أكثر المشاطرين من أبناء الصعيد، إضافة إلى الإخوة الأقباط الذين يحرصون دائما على تلك المشاطرات، وكل عائلة تسعى لذلك وتؤازرها العائلات الأخرى فى مصابها.
بدأت فكرة المشاطرات فى الأهرام عبر سطور معدودة، وهى فكرة لا تزال قائمة حتى اليوم، لكن مع بداية حقبة التسعينيات بدأت تظهر تطورات جديدة على شكل النعى، ليكون أكثر فخامة، وظهورا فى الصفحة، فتم تنفيذ الإطارات والصفحات الكاملة، واستخدام الخط المتوسط والكبير، للتعبير عن تقدير شريحة أوسع من المشاطرين للفقيد وعائلته، فى تلك اللحظات الأخيرة فى مشوار العمر، وهو ما برز بشكل أكبر فى الألفية، حيث تم استحداث إشراك صاحب النعى، فى اختيار شكل النعى الخاص به، بل موقعه من الصفحة أيضًا.
ويقول الخولي: يتم إرسال أكثر من نموذج «ماكيت» له ليختار ما يراه مناسبًا، من حيث الشكل ومكان النشر، ورغم دخولنا الثورة التكنولوجية الحديثة، وظهور العديد من المواقع الإلكترونية، وكذلك مع سيطرة السوشيال ميديا على العقول، إلا أن صفحات الوفيات فى الأهرام لم تتأثر كثيرّا بذلك، فلا يزال جمهور الوفيات موجودًا، انطلاقا من تبارى العديد من العائلات فى الحفاظ على تقاليدها، والاهتمام بإبراز مكانها ومكانتها من خلال صفحات الأهرام، وهو ما يدفعنا دائما الى العمل على تطوير خدمتنا، بالحفاظ على المساحة الورقية مضافاً إليها المساحة الإلكترونية، بما يضمن استمرارنا وإرضاء العميل وشرائح المجتمع كافة ومواكبة عصر التطور الرقمى.
استعراض اجتماعى
الدكتور أحمد زايد أستاذ علم الاجتماع، وعضو مجلس الشيوخ، يرى أن المتغيرات التى طرأت على صفحات الوفيات فى الأهرام، ما هى إلا مرآة للمتغيرات التى تحدث فى المجتمع المصرى، بل إنها تتجاوز ذلك إلى كونها أحد اشكال التباهى، بين الأفراد والمكانة الاجتماعية التى تتمتع بها العائلة، فنجد كل عائلة تسعى لأن تكتب كل أفرادها بأسمائهم ومراكزهم ووظائفهم، بل كل الأقارب والأصهار المرموقين، وكأنه استعراض للقوة الاجتماعية التى تتمع بها العائلة، وهو ما يسمى فى علم الاجتماع ظاهرة «التميز الطبقى»، الأمر الذى تعكسه المتغيرات المتعددة التى ظهرت فى المجتمع، وهو ما يظهر بوضوح على صفحات الوفيات، ولا يقتصر على شكل العزاء المقام، واختيار قاعات كبيرة فى أماكن لها اسم كبير، كنوع من أنواع التباهى، ليس على مستوى العزاء فحسب، بل إننا نرى ذلك فى الأفراح، إذ يسعى كل شخص لإكمال الصورة الاجتماعية له ولعائلته، بإقامة حفل عرس كبير، فى مكان متميز، يلفت الأنظار، وتحكى عنه مصر كلها «بالتعبير الدارج»، وتذهب له طبقة مهمة بعينها، تتباهى أيضا بما رأته من مظاهر البذخ والثراء والمكانة المرموقة والذوق الرفيع الباهر، سواء فى الديكور أو الإضاءة أو أنواع الطعام والشراب المقدمة، وحضور فنانين لهم أسماء لامعة، وراقصات شهيرات فى عالم الفن، لتكون على قدر التعبير عن تلك المكانة المرموقة للعائلة، فى تلك المناسبة ولفت الأنظار.
ويقول الدكتور زايد: من اللافت فى مثل هذه الإعلانات، هو أن بعض العائلات حديثة الثراء، ترغب من خلال تلك الإعلانات فى أن تثبت أقدامها فى طبقتها الجديدة، وأن تكتسب سمعة وشهرة تتناسب مع حالتها الجديدة، وفى أحيان أخرى تزداد المبالغة والإسراف فى الاستهلاك، بشكل قد يتجاوز المستوى المالى لبعض العائلات، لأنها ترى فى الظهور سبيلا نحو تحقيق مكانة اجتماعية، تتيح لها فرص التقرب من عوالم الأثرياء وأصحاب المكانة، وفى العموم تكون الأفراح أو سرادقات العزاء، وصفحات الوفيات سبيلا لتوضيح مكانة العائلة، وأن تتناسب مع المستوى المالى للعائلة، وهو ما يبدو جليا فى أفراح بعض الفنانين ورجال الأعمال، الذين يحتفون بتلك المناسبات، بما يرون أنه يليق بمكانتهم وشهرتهم، فيملأون صفحات السوشيال ميديا، وبعض المواقع التى تهتم بتلك الأخبار، وهو ما يحدث فى الوفيات أيضا، حيث تتباهى العائلات بحجز صفحة كاملة أو نصف صفحة، فى تعبير واضح عن الوضع الاجتماعى، ويتباهى المشاطرون للأحزان أيضا، فى حجم مساحة المشاطرة، للتعبير عن مكانتهم أيضا، وهذا السلوك ينعكس على أمور كثيرة فى المجتمع.
مؤشر اقتصادى
وينظر الدكتور حسن الخولى أستاذ علم الاجتماع إلى صفحات الوفيات فى الأهرام، باعتبارها احد المؤشرات المهمة، لحجم التنمية والأوضاع الاقتصادية فى البلاد، حيث تعكس ـ فى رأيه ـ مدى تحسن الحالة الاجتماعية والاقتصادية للمواطن، ويقول: مع ظهور أى أزمات اقتصادية تتأثر بها تلك الطبقة، التى تتمتع بقدرة على السداد، تتأثر صفحات الوفيات، ومع الانتعاشة الاقتصادية وتحسن المستوى المعيشى للأفراد، ينتعش النشر فى صفحات الوفيات، أى يمكن عدُّها تيرمومترا للحالة الاقتصادية فى المجتمع، لهذا لا نجد أن تلك العادات قد تأثرت كثيرا بمتغيرات العصر الرقمى، لأنها تتعلق بالسيكولوجية البشرية، فى عملية إظهار التفوق الاجتماعى، وإبراز المكانة الاجتماعية والعائلية، وهو ما يبرز فى حجم المشاطرات الكبيرة للعائلات الكبرى فى مصر، خصوصا الأقباط وعائلات الصعيد، الذين يتباهون بأسماء عائلاتهم وبالأنساب والمصاهرات، وهو أمر يمثل جزءًا مهما من التركيبة المصرية، التى تسعى دائما للتباهى بالعائلة وحجمها وفروعها.
وينظر الدكتور إيهاب الدسوقى رئيس قسم الاقتصاد بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية، الى صفحات الوفيات باعتبارها من الصفحات المهمة، التى يتابعها بشكل أساسى، كأحد قراء الأهرام، بل إنه يرى أن جزءًا من المحتوى الخبرى الذى تقدمه الأهرام، هو المحتوى الذى تقدمه صفحات الوفيات، فمن خلاله يتعرف المتابع على قائمة المشاطرات، ويقدم واجب العزاء إذا حدث وإن وجد اسم أحد معارفه بالصفحة ضمن الناعين، وهو أيضا ما يقوم به العديد من القراء المتابعين لتلك الصفحات،
المصداقية التاريخية
تكتسب صفحات الوفيات بالأهرام أهميتها، حسبما يرى الدكتور صفوت العالم الأستاذ بكلية الإعلام، من قوة الأهرام كصحيفة ومؤسسة، تميز منذ انطلاقتها الاولى، بكونها صحيفة وقورة، وذات مصداقية كبيرة لدى قطاعات واسعة من المصريين، ويرى الدكتور العالم أن اهتمام الأهرام بنشر إعلانات الوفاة، على مدار ساعات اليوم، يخدم أبناء المدن والمحافظات عبر الطبعات الثلاث، خصوصا وأن هناك عقيدة لدى فئة كبيرة من المواطنين، باختلاف الأجيال والأماكن، بأن الأهرام يتميز عن غيره من الصحف، بهذا القدر الكبير من المصداقية، وهو ما ينعكس على مضمون أخبار الوفيات، والدليل على ذلك حرص كل الفئات على نشر خبر الوفاة باختلاف الطبعات، حتى فى الطبعة الثالثة، مع عمل تنويه فى الطبعة الأولى لليوم التالى، وهى خدمة لا تقدمها أى جريدة، ويضيف العالم: علاقات النسب والمصاهرة تبرز فى تلك الصفحات، ومعها أيضا تبرز العلاقات السياسية والاقتصادية فى الدولة، ففى حقبة السبعينيات ابرزت تلك الإعلانات، علاقات الرأسمالية والانفتاح، والعلاقة بكبار المسئولين السياسيين من خلال علاقات المصاهرة والأنساب، فى حرص على إظهار المكانة الاجتماعية، وما تتمتع به كل عائلة من علاقات، حيث يتضح ذلك أكثر فى الجانب الخاص بالمشاطرة، لصاحب حالة الوفاة، وفى فترة حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك، ظهر انعكاس العلاقات بين الكيانات الاقتصادية مع الدولة، ويمكن رصد ذلك فى العديد من المناسبات، ومنها على سبيل المثال المشاطرات التى نشرت لوزير إسكان سابق، لعدد كبير من أصحاب شركات المقاولات، وأصحاب المصالح الذين كانوا يتبارون فى إبراز مساحة المشاطرة، لمجاملة «معالى الوزير».
رابط دائم: