موجات حر قاتلة.. غابات تحترق.. فيضانات مدمرة.. وغيرها من المظاهر القاسية التى باتت نتيجة ما يشهده العالم من تغيرات مناخية.. وإذا كان هناك من يشكك فى أن الكوارث التى أضحت تحيط بالعالم سببها الاحتباس الحراري، فقد جاء صيف 2021 ليصبح بمنزلة نقطة تحول فارقة وصفعة للعالم، محذرة مما قد يحمله المستقبل من كوارث تفوق قدرة تحمل البشر، خاصة بعد ظهور عارض جديد انضم حديثا لقائمة أضرار الاحتباس الحرارى، ألا وهو «المجاعات».

معاناة أم وطفلتها
يعانى الجزء الجنوبى من جزيرة مدغشقر، قبالة الساحل الشرقى لإفريقيا، أسوأ موجة جفاف تشهدها البلاد منذ أربعة عقود، حيث حذر برنامج الأغذية العالمى أخيرا، من أن 1.14 مليون شخص يعانون انعدام الأمن الغذائي، وأن 400 ألف شخص يتجهون نحو مجاعة. فالجزيرة الواقعة فى المحيط الهندى - المشهورة بتنوعها البيولوجى والغنية بثروتها البرية ونباتاتها النادرة - باتت أكثر دول العالم معاناة من نقص الغذاء. فمنذ سبتمبر الماضى - بداية موسم الجفاف - أصبح الوضع حرجا، حيث استنفدت الأسر إمداداتها الغذائية، وامتدت إلى مخزون البذور الحيوي. وفى أمبوفومبي، البلدة الرئيسية فى منطقة أندروى المتضررة بشدة، يعيش المئات دون مساعدة منذ شهور. وفى الوقت الحالي، يلجأ ما يصل إلى 80 % من السكان فى مناطق معينة فى الجنوب إلى تدابير البقاء اليائسة مثل أكل الجراد وثمار الصبار والأوراق البرية، وهو مصدر غذاء باتوا يلجأون إليه كملاذ أخير.
ويصف برنامج الغذاء العالمي، الذى يعد هدفه الأول الحفاظ على الأمن الغذائي، مشاهد من المعاناة التى لا يمكن تصورها أو تخيلها، إلى حد أن الأطفال باتوا لا يستطيعون البكاء من شدة ضعفهم وهزال أجسادهم ومعاناتهم مع سوء التغذية، لذا تلجأ العائلات لنظام المقايضة من أجل إطعام أطفالهم، وذلك بمقايضة ما يملكونه من أثاث بسيط وأوانى الطبخ والملاعق مقابل الحصول على ثمرات الطماطم والدجاج الهزيل وعدد قليل من أكياس الأرز، التى لا تزال متوافرة فى الأسواق. وتعليقا على الوضع الحالي، يقول أروينو مانجوني، نائب مدير برنامج الأغذية العالمى فى مدغشقر: «لقد عملت فى العديد من البلدان فى القارة الإفريقية - فى جمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية والكونغو - لكن لم أر قط أطفالا عبارة عن جلد وعظام». على الرغم من أنه لا يوجد حاليا نظام لتتبع عدد الذين ماتوا جوعا، ومع ذلك، فقد أحصت وكالة «فرانس برس»، ما لا يقل عن 340 حالة وفاة، طبقا للأرقام المحلية، فى الأشهر الأخيرة.
وفى رسالة من المنطقة الأكثر تضررا، كتبت شيلى ثاكرال، المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمى، : «موسم الزراعة القادم على بعد نحو شهرين، وتوقعات إنتاج الغذاء قاتمة.. فالأرض مغطاة بالرمال وليس هناك ماء، والأدهى أن فرص سقوط المطر ضئيلة». لذا يحذر البرنامج من أن عدد السكان المحليين الذين يواجهون انعدام الأمن الغذائى سيتضاعف بحلول أكتوبر المقبل.
تاريخيا، نتجت المجاعات عن تلف المحاصيل الزراعية، أو غزو الآفات، أو الكوارث الطبيعية، إلا أن المجاعات الحديثة كانت إلى حد كبير من صنع الإنسان، وذلك لكونها نتيجة النزاعات والصراعات المقترنة بفشل الحلول السياسية. أما ما يحدث فى مدغشقر، إحدى أفقر دول العالم، فلا يعود لأى من تلك الأسباب، مما يجعلها أول مجاعة فى التاريخ الحديث تنجم عن تغير المناخ وحده.
من، جهته يؤكد أندرى نيتريتس، المدير الإقليمى لمنظمة «أفريكا 350»، المعنية بالتصدى لظاهرة تغير المناخ: «ما تشهده مدغشقر من مجاعة لن تكون الأخيرة، فالكوارث المناخية تضرب بلدا تلو الآخر،. فقبل ذلك كان القرن الإفريقي، والآن مدغشقر، وقد يمتد الأمر إلى الجزء الشمالى أو الغربى من إفريقيا مادام المناخ يزداد سوءا عاما بعد الآخر».
تؤدى درجات الحرارة المتزايدة إلى تعطيل أنماط الطقس العالمية المعتادة التى اعتمد عليها المزارعون، ولا سيما فى دول العالم النامية لعدة قرون، حيث أصبحت الرياح الموسمية غير متوقعة بشكل كبير، فتارة تأتى فى وقت متأخر عن المعتاد، وتارة أخرى تظهر فى أماكن غير متوقعة.. وقد لا تظهر على الإطلاق، وهذا ما يتسبب فى إضرار بالغ فى المناطق التى تعتمد على الأمطار بشكل أساسى فى الزراعة.
وقد شهد الجزء الجنوبى من مدغشقر هطول أمطار أقل من المتوسط على مدى السنوات الخمس الماضية، بينما يعتمد معظم سكان الجنوب على الزراعة صغيرة النطاق للبقاء على قيد الحياة، ولكن بسبب الجفاف جفت الأنهار وسدود الري.
وقد أعلن برنامج الأغذية العالمى أنه فى حاجة إلى 78.6 مليون دولار، لتوفير الغذاء المنقذ للحياة فى موسم الجفاف القادم فى مدغشقر، لكن الأمر لا يقتصر على توفير الغذاء، بل أيضا مساعدة البلدان الأكثر تضررا من تغير المناخ على التكيف بطرق تمنع حدوث مجاعات فى المستقبل. فعلى سبيل المثال: يحتاج جنوب مدغشقر إلى أنظمة رى، إلى جانب الاتجاه لزراعة المحاصيل التى تتحمل الجفاف، وكذلك سلالات من الماشية أكثر قدرة وتحملا للمناخ الحالى.
وقد وافقت الدول الغنية، كجزء من اتفاقية باريس لعام 2015 بشأن تغير المناخ، على تخصيص 100 مليار دولار سنويا، للإسهام فى أزمة المناخ بمساعدة الدول النامية على التكيف، لكنها لم تحقق هذا بعد، على الرغم من أن الاستثمار فى التكيف مع تغير المناخ والتخفيف من آثاره سيعود بالفائدة على كل دول العالم على المدى الطويل.
ويقدر البنك الدولى أن تغير المناخ يمكن أن يتسبب فى نزوح أكثر من 140 مليون شخص داخل حدود بلدانهم بحلول 2050، خاصة فى إفريقيا (جنوب الصحراء الكبرى) وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية، مع عواقب وخيمة على التنمية الاقتصادية، فضلا عن سعى كثيرين إلى مغادرة بلدانهم بشكل دائم. وتعليقا على ذلك يقول «نيتريتس»: «اعتدنا أن نرى سكان منطقة الساحل الإفريقى يغادرون بسبب الصراع أو من أجل البحث عن مستوى اقتصادى ومعيشى أفضل.، لكن تغير المناخ أصبح الآن أحد المحركات الرئيسية للهجرة، خاصة الذين لم يعودوا قادرين على زراعة أراضيهم». ويضيف: «لن يؤثر هذا على إفريقيا فقط بل أيضا على أوروبا وآسيا وأمريكا أيضا، حيث سيجدون فيها ملاذا وأماكن أكثر أمانا للعيش فيها».
وأخيرا ..بعدما باتت الموجة الحارة تهدد قارات العالم بمظاهر متعددة، حان الوقت لأخذ ما يمكن ان يخلفه التغير المناخى من مخاطر على محمل الجد.. فكما استطاع العالم أن يواجه وباء قاتلا كاد يفتك بالبشرية، وتمكن من إنتاج اللقاحات فى أقل من عام، يتحتم عليه الآن التكاتف وتوجيه اهتمام أكبر للوباء المناخى الأكثر شراسة، كى يستطيع التغلب عليه.
رابط دائم: