-
أحببت هذا الإنسان العظيم فبحثت عنه كما أحببت نجاة الصغيرة فكتبت عنها
-
عاش الحياة حزينا وانشغل بها أكثر من كتابته عنها وكان يهرب من الوحدة إلى الناس
-
لم ينشر فى حياته غير ديوانه «لا تكذبى» لأنه كان يعد تجاربه فى الكتابة مبتورة
-
رفض الزواج لأنه «أبغض الحلال عند الناس»
-
صانع النجوم ومكتشف عبدالحليم ونجاة وبليغ وأنيس منصور وهيكل
كامل الشناوى صانع النجوم، ومكتشف المواهب مثل عبدالحليم حافظ وهيكل، وأكبر عاشق فى الصحافة المعاصرة كالأسطورة محمد التابعى، وأكبر «سهير» لا يعرف النوم ليلا بل ينام مع شروق الشمس، والعازب الذى كان محاطا بعشرات الفاتنات،دق قلبه كثيرا لهن وكم من فاتنة طعنت قلبه فأخرج لنا روائعه الشعرية وعلى قلتها فقد غناها كثيرون مثل «لا تكذبى وحبيبها» اللتين تغنى بهما عبدالوهاب وحليم ونجاة. لم يكن وحيدا فى يوم من الأيام بل عاش بالناس، وشرب الحياة حتى الثمالة، كان مدخنا شرها وأكولا ومسرفا يقبض النقود لينفقها على أصحابه، هو باختصار رجل لم يعرف الاعتدال ولا الوسطية بل عاش بتطرف وكأنه فى سباق مع الموت حتى آخر ثانية من عمره القصير، فقد ولد فى 7 ديسمبر سنة 1910 ورحل فى 30 نوفمبر سنة 1965م، أبدع الحياة وتنفسها وسخر منها وكان آخر ما يفعله أن يكتب رغم أن مهنته الكتابة!
وبعد جهد شاق سبع سنوات نجحت الكاتبة رحاب خالد فى جمع ونشر «يوميات الشناوى» فى كتاب ضخم من 550 صفحة بعد 55 سنة على رحيله.
سألتها عن قصة جمعها لليوميات فقالت: انتهيت من قراءة كتاب «ساعات» وما فيه من خواطر ذكية بديعة حتى أردت المزيد كقوله «كلما ضاع منى صديق أبكى عليه كما لو كان قد فارق الحياة وأدفنه فى قلبى، ووضعت اليوم يدى على صدرى فخيل لى أنه مقبرة تضم مئات الأضرحة»، وكقوله: «أهدى إليها وردا فى إحدى المناسبات وبعد ساعات دق جرس التليفون وسمع صوتا يقول: أشكرك لقد أسعدتنى، ليس هذا صوتها إنه صوت الورد». كنت أحتاج المزيد من إنسانية وحنان وإخلاص هذا الكاتب ليؤنسنى فى رجائى ويأسى وقرأت ديوانه وكتبه الأخرى فلم تكفنى، ولم أسلم بقلة إنتاجه وأن شقيقه مأمون الشناوى نشر كل شيء، وعلمت أن بيته هدم ومكتبته تبرعت بها أسرته فلم يكن أمامى غير البحث عن آثاره بالصحف التى عمل بها، ودخلت مخزن الدوريات فى دار الكتب خمس سنوات، وبعض المجلدات كانت فى الترميم أو «متكفنة» كما يصفونها فلجأت إلى المكتبة المركزية لجامعة القاهرة وإلى أرشيف الأهرام ودار الهلال ودار التحرير ووجدت «الخواطر» التى كان يكتبها بانتظام فى «آخر ساعة» من 1946 حتى سنة 1948 ثم وجدت كنز «اليوميات» التى كتبها من سنة 1953 حتى سنة 1965م وكان بعضها قد جمع فى كتبه «بين الحياة والموت» «وزعماء وفنانون وأدباء» و»حبيبتي: رسائل حب» لكن أغلبها لم ينشر فى كتاب وكان نشرها فى «الأخبار وأخبار اليوم والجمهورية» ولم أتعرض لكامل الشناوى العاشق وسهراته التى حكى كثيرون عنها من محمود السعدنى فى «الظرفاء» إلى يوسف الشريف فى «كامل الشناوى آخر ظرفاء ذلك الزمان» إلى ما رواه محمد التابعى ورزاليوسف وهيكل وإحسان عبدالقدوس وأنيس منصور ومصطفى محمود وموسى صبرى وجليل البندارى وصلاح حافظ وغيرهم ممن عرفوه، وعلى سبيل المثال كان التابعى قد نعى الشناوى فى «أخبار اليوم» بمقالة يوم 11 ديسمبر سنة 1965م عنوانها «كامل الشناوي: الإنسان الذى انتحر حبا بالحياة»!
تضيف رحاب خالد: لقد جمع ديوانه «لا تكذبى» على عجل قبل وفاته سنة 1964 وكان قد تعاقد مع «دار المعارف» على نشر أربعة كتب مثل «بين الحياة والموت» وأصدرها شقيقه مأمون الشناوى بعد رحيله، لقد أحببت هذا الإنسان العظيم فبحثت عنه كما أحببت نجاة الصغيرة فكتبت عنها كتابى الأول، كان الشناوى حزينا عاش الحياة وانشغل بها أكثر من كتابته عنها، وكان يهرب من الوحدة إلى الناس، وكان يرعى الموهوبين مثل «عبدالحليم ونجاة وكمال الطويل وبليغ حمدى وهيكل» وكان صديقا لعبدالوهاب وأم كلثوم وعرف أحمد شوقى، وكان صاحب ثقافة موسوعية خاصة فى الشعر العربى القديم لدرجة أن أصدقاءه عبدالوهاب ومصطفى أمين وتلميذه أحمد رجب قالوا: ليتنا كنا نسجل ما يقوله كمتحدث ثقافته موسوعية وظريف لا مثيل له وساخر كبير، كان حبيب الجميع وقد ذكره هيكل فى كتابه «بين السياسة والصحافة» بكل حب وآخر عيد ميلاد للشناوى أقامه هيكل فى بيته، ولما وضعوا اسم كامل الشناوى ضمن كشوف المصروفات السرية التى تحصل عليها الصحفيون قبل ثورة 23 يوليو 1952م غضب وحزن وعلم أن الضابط صلاح سالم وضع اسمه ضمن الكشف الذى كان الضابط عبدالقادر حاتم قد أعده، وبعد عامين تولى الشناوى رئاسة تحرير «الجمهورية» وكان أول حوار صحفى له فيها مع عبدالناصر، ثم صارت صداقة قوية بينه وبين صلاح سالم، وفى كل الأحوال كان محميا بهيكل الذى كان يحبه ويقدره بصدق لأفضاله عليه قبل الثورة.
ماذا عن قصائده التى تحولت لأغنيات رغم قلتها؟
كان عبدالوهاب أكثر فنان اهتم بشعره إذ لحن وغنى له «الخطايا» 1946 و»نشيد الحرية» 1952 و»أغنية عربية» سنة 1958 و»لا تكذبى» سنة 1961 و «كل أرض عربية» سنة 1962 ولحن لأم كلثوم «على باب مصر» سنة 1964 ولعبدالحليم «أنت قلبى» سنة 1967م كما بدأ تلحين أوبريت «جميلة» سنة 1958 ثم انصرف عنه لانصراف الشناوى عنه ثم شرع بليغ حمدى فى تلحين الأجزاء التالية منه سنة 1963م ولكن الشناوى لم يتمه أيضا!
وكان عبدالحليم الثانى فى اهتمامه بشعر الشناوى فغنى له «لا تكذبى» سنة 1962 ثم «حبيبها» سنة 1966 تلحين محمد الموجى و»انت قلبى» سنة 1967، ولحن وغنى له فريد الأطرش «عدت يا يوم مولدى» سنة 1962 و»لا وعينيك» سنة 1967 ثم أخيرا غنت له نجاة الصغيرة «سمعته» سنة 1961 ثم «لا تكذبى» سنة 1962 كما غنت من شعره نور الهدى «ولى زمانى» سنة 1946 تلحين رياض السنباطى وغنت آمال حسين «عيناك» سنة 1947 تلحين زكريا أحمد وغنت ندى «آمنت» سنة 1963 و»أضواء» سنة 1964 تلحين محمد ضياء الدين ولحن وغنى محمد جمال «احذر يا قلبى» سنة 1964 وغنى له محرم فؤاد «لست أشكو» تلحين بليغ حمدى. وعلى سبيل المثال غنت له نجاة قصيدته «لا تكذبى» كما غناها عبدالوهاب وحليم، نعم قصائده قليلة ولكنها قوية ومؤثرة وصادقة.
لماذا ظل الشناوى مترددا فى نشر قصائده وكتبه؟!
كثيرا ما كان يمزق أشعاره ولا يرضى عما يكتبه وكان يصف ما يكتبه بأنها «محاولات ناقصة مبتورة» ومزق بنفسه بعض قصائده سنة 1955 وكان يكتب بيتا أو أكثر على علبة سجائره أو ظهر فاتورة مطعم ثم يمزقها أو تضيع، لذلك نشر تلميذه أحمد رجب سنة 1962 مقالة يتهمه فيها بالكسل ويطالب بحبسه ليعكف على إخراج ما يمتلكه من كنوز بدلا من إهدار عمره فى الحديث والسمر والسهر!
وفى يناير سنة 1964 تعاقد الشناوى على نشر ديوانه الأول بعنوان «لا تكذبى» مع الدار القومية للطبع والنشر، ثم تعاقد مع «روزاليوسف» على نشر كتابه «لقاء معهم» وهو أول ما صدر له فى سبتمبر 1964 عن شخصيات أدبية وفنية وكان نشرها كمقالات فى «الهلال» بين يناير 1962 ويناير 1963 حين تولى مصطفى أمين رئاسة مجلس إدارة «دار الهلال».
ثم صدر ديوانه «لا تكذبى» فى نوفمبر 1964 وضم 27 قصيدة ومقطوعات من أوبريت «جميلة»، وفى 3 ديسمبر 1964 تعاقد مع «دار المعارف» على نشر ثلاثة كتب أخرى هى «ساعات» و»بين الحياة والموت» و»زعماء وفنانون وأدباء» وكلها لم تطبع فى حياته وفى الشهر نفسه تسلم وسام العلوم والفنون من الرئيس عبدالناصر فى احتفال عيد العلم بجامعة القاهرة يوم الاثنين 14 ديسمبر 1964.
وترك غير ما سبق كتبه: «اعترافات أبو نواس» و»الذين أحبوا مى» و «أوبريت جميلة» وقد نشرها شقيقه مأمون الشناوى هذا غير الكثير من القصاصات والقصائد والخواطر التى فقدت أو مزقها هو فى حياته!
لماذا أضرب الشناوى عاشق الحسناوات عن الزواج؟!
أحب الشناوى كثيرا وتعذب وذاق الخيانة مرارا ولكنه لم يتزوج وكان يقول إذا سئل عن سر عدم زواجه: «إنى لا أصلح للزواج» أو «الزواج عذاب» أو «الزواج أبغض الحلال عند الناس» أو «لا أملك الطاقة المالية أو طاقة التضحية بالحرية الشخصية» فقد كان شديد الإسراف يقتنى أغلى الكرافتات والولاعات والساعات والأقلام ويفصل ثيابه عند أشهر الترزية، وفى كل ليلة يجمع أصدقاءه ويسهرون فى أفخم المطاعم أو الفنادق يأكلون ويشربون ويدفع الفاتورة وحده وكان دائم الاستدانة من البنوك مع أنه حاصل على لقب البكوية!
برأيك ما هى أهم صفة فى شخصية الشناوي؟
صانع النجوم ومكتشف الموهوبين، فهو أول من اكتشف عبدالحليم حافظ وظل يرعاه وهو أول من اكتشف كمال الطويل وبليغ حمدى ونجاة الصغيرة ونور الهدى وسعيد أبو بكر، وهو الذى كتب فى يومياته إن «على قد الشوق» بألحان كمال الطويل كانت كالطبق الطائر الذى حلق بعبدالحليم فى السماء، وهو الذى قال إن عبدالحليم يكذب إذا تكلم ويصدق إذا غنى، وهو الذى أطلق على أم كلثوم «كوكب الشرق» وأطلق على سميحة أيوب «سيدة المسرح»، وكان يقول: المعجزة لا تتكرر ولكنها تتكرر كلما وقفت أم كلثوم تغنى، وحين يبدأ موسمها الغنائى كان يقول: بدأت السنة الغنائية.
وهو من اكتشف هيكل وإحسان عبدالقدوس وأنيس منصور ومصطفى محمود وصلاح حافظ وموسى صبرى وسعيد سنبل وكمال الملاخ وأحمد رجب وحمدى فؤاد ويوسف الشريف ومن الرسامين طوغان ويوسف فرنسيس وإيهاب شاكر وجورج البهجورى وفى الأدب يوسف إدريس ومحمد الفيتورى وكمال عبدالحليم ومعين بسيسو وغيرهم وكما وصفه صديقه عبدالوهاب فإنه كان يمتلك «رادارا» إلهيا عجيبا فى اكتشاف المواهب ورعايتها وكان آخر ندماء المجالس ولو كان لدينا جهاز تسجيل وقمنا بتسجيل جلساته لحصلنا على دائرة معارف إنسانية غنية، وكانت رعايته للمواهب تمتد لرعايتهم ماليا وغذائيا وربما بالسكن أيضا وإذا وجد أحدهم ثيابه بالية أخذه من يده للترزى وفصل له بدلة، وقد فعل ذلك مع صلاح حافظ ومع شعر كمال عبدالحليم إذا سجله بصوته واشترى مائة نسخة من ديوانه ليفرقها على أصحابه، وكم أهدى مؤلفات دسمة من مكتبته لمن يريد أو يرى فيه موهبة! ولم يكن غريبا أن يكتب عنه يوسف إدريس مقالا فى «الجمهورية» يوم 2 ديسمبر سنة 1965 عنوانه «أمس انتهى عصر» فى رثاء الشناوى وذكر فيه إنه كان منجم حب لكل من عرفه وهو الذى علمنا حب الشعر والمتنبى والمعرى ومهيار وهو الذى جمع كل أطياف الناس من حوله الماركسى واليسارى واليمينى.
قال عنه صلاح حافظ إن الشناوى كان يرعى المواهب من كل الوجوه، يشترى لهم الكتب والثياب ويخصص لهم حجرة فى بيته إن كان أحدهم بلا سكن، وهو الذى أنقذ مواهب كثيرة من العوز المادى ومن الإحباط والتجاهل واليأس، وكان يكتشف موهبة كل يوم وكما قال يوسف إدريس كان يشم المواهب على مسافة ألف ميل.
رابط دائم: