رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

«كأنه هو»..
وجوه صلاح فضل المتعددة فى «صدى الذاكرة»

د. أحمد عبدالحميد عمر

بعد أن عرفناه أستاذا جامعيا مرموقا وناقدا أدبيا مجددا، يسعى صلاح فضل فى كتابه الأخير «صدى الذاكرة» إلى أن يعيد تقديم نفسه للقارئ العام، معرفا بوجوهه الأخرى التى لم تنل القدر نفسه من تسليط الضوء: المثقف الجسور المنشغل بالشأن العام وصولا مثلا إلى اقتراح مشروع شامل للتأمين الصحى فى ضوء ما شاهده بنفسه فى إسبانيا، وسليل تاريخ التنوير النهضوى الذى حاول مخلصا أن يمنع الديمقراطية الصندوقية من أن تلتهم نفسها، وقبل ذلك وبعده إنسان العصر المأزوم، الذى رام التوفيق بين الامتثال لتحيزاته المبدئية والانصياع لضرورات الحياة العملية.

وربما كان أمرا مستغربا أن يُفتتح الكتاب بفصل عنوانه «الصدي: من حكاية الواقع إلى اختراعه»، وهو مقال نقدى قصير محكم عن جدلية النقل الحرفى للوقائع وإعمال الخيال المبدع فى الأعمال السيرية. ومنبع الاستغراب أن هذا الفصل يستهل بابا عنوانه «طيف الماضى»، نتوقع أن ينسحب فيه العقل النقدى إلى الخلف بينما يتقدم البوح الوجدانى إلى الأمام. لكنها طريقة الوعى النقدى فى إقامة عقد سيرى مع القارئ مستخدما شفرته النقدية الخاصة. إنها دعوة لوضع هذه الكتابة السيرية، بالأخص ما سجله صلاح فضل فى بابها الأول، فى منزلة بين المنزلتين: منزلة الواقع التسجيلى والخيال الأدبى، ربما لتعفى صاحبها من تبعات جسارة كادت تغيب عن كتابات المنخرطين فى الشأن العام فى العقود الأخيرة بتأثير الثقافة المتشددة المنغلقة، غليظة اليد حينا، سليطة اللسان أحيانًا. لا عجب إذن أن يحذو فضل حذو القطب الأكبر فى عوالم السرد العربى فيجعل من سيرته «صدى» للذاكرة، مثلما كتب محفوظ «أصداء» سيرته الذاتية، ولا عجب فى أن يكون عنوان الباب الأول «طيف» الماضى، بما تحمله المفردة من دلالة على حضور الأثر الموحى لا الأصل المتعين، وفى أن تتكرر فى هاتيك الفصول عبارات صريحة مدلولها أن هذه السطور المدونة هى ما «يذكره» وما «يحسب» أنه قد حدث يوما ما؛ فـ»كأنه هو» إذا جاز استعمال التعبير القرآنى. هذا مستوى أول للتفسير. لكن هذا التعاقد السيرى الواقع على التخوم ربما يكون وسيلة لدعوة القارئ العام خصوصا، ليقرأ الكتاب قراءة جمالية محضة، تحيل على ذاتها، بدلا من الانشغال بمتابعة الوقائع فى بعدها التاريخى، خاصة أن الموضوعات الغالبة على الباب الأول تحديدا محملة بطاقة وجدانية عالية. تنضج «متعة» القراءة فى فصول الباب الأول على نار المراوحة بين أزواج من المتناقضات الإنسانية: بين الحرص على اتباع صوت الضمير فى القضايا الوطنية والخشية من بطش السلطة؛ بين الاكتفاء بتقديم الإسهامات التقنية التى تشغل أهل التخصص تنظيرا وتطبيقا والسعى للعب دور فى الشأن الثقافى العام؛ بين الرغبة الصادقة فى عدم التقيد بقيود سوى أن يعمل المرء ما يحب حقا والانصياع لمتطلبات الأسرة والأبناء وتطلعات الحياة المشروعة لأستاذ جامعى نابه؛ وأخيرا بين ورع الأزهرى المحافظ والصبوة المتجددة الاتقاد لمحب أضناه حب الجمال.

ولا بد لى من الاعتراف بأن جرأة فضل فى هذا الكتاب تحديدا قد أدهشتنى، خاصة فيما يتعلق بذكره أمورا من قبيل توقفه عن تقديم الإسهامات النظرية لفترة طويلة، ناهيك عن الجوانب العاطفية فى حياته. وأشهد أن أريحيته فى التعامل مع طلابه قد سمحت لى بأن أستمع منه إلى أطراف مما كتب، لكن المفارقة أنه كان أشد صراحة وانفتاحا حين كتب جهرا، منه حين حكى سرا فى أجزاء كثيرة. ولا أريد أن يتوهم القارئ أن المفارقة متعلقة بشخصى، بقدر ما أحسب أنها متعلقةٌ بموقف وجودى، أشبه بموقف حكيم بوذى استطاب لذة التخلي؛ التخلى عن التعلق بمأمول آت، أو التحسّب له.

هكذا أقرأ صورة الغلاف، حيث صورة نصفية للمؤلف مرتديا حلة كاملة. وأول ما لفت انتباهى فيها أن ربطة عنقه مائلة إلى اليمين بوضوح. تفصيلة يمكن تبريرها بتسرّع المصور، لكنها تظل موحية؛ فليس أمرا مهما أن يبدو فضل هذه المرة تحديدا فى كامل أناقته الخارجية، بل فى أجلى حالاته الداخلية: ناظرا إلى الأفق البعيد من خلف زجاج إحدى نوافذ حجرة الاستقبال بمنزله.. نظرة متملية، لكنها تظل عرضة لأن يحرمها موقع النظر من أن تستوعب كل شيء فى الخارج، ربما لأنها رضيت فى هذه اللحظة التاريخية بإخلاص المقصد فى الداخل.

حضور الشعر

يصعب أن تتخيل سيرة ذاتية، أو صدى لها، يدونه صلاح فضل وقد خلت من الشعر، وهو الأزهرى الدرعمى ابتداء، ثم صاحب النظرات المتعمقة فى شعرنا القديم والجديد عبر عقود. يحضر الشعر فى كل فصول الكتاب تقريبا، مكتوبا «به» فى الباب الأول، منظورا «فيه» فى الباب الثانى. فلا تحضر الأبيات الشعرية فى الباب الأول على سبيل الاستشهاد المؤنس، بقدر ما تمثل الأبيات برنامج عمل ودستورا لمواجهة العالم. ومن الأمثلة اللطيفة الذكية لذلك تبرير المؤلف إيراده بعض ذكرياته العاطفية ببيت الشعر الشهير:

لا تنه عن خلق وتأتى مثله..

عار عليك إذا فعلت عظيم

وهو المحرض من قبلُ للدكتورين لويس عوض وسهيل إدريس على بلوغ الغاية فى الصراحة فى مذكراتهما. أما الشعر منظورا فيه فيحضر فى الباب الثانى الذى عنوانه «صوت الشعر»، ويطرح فيه المؤلف انشغاله بدور الشعر وحضوره فى فضاءات التلقى المعاصرة، وهو مكتوب بحبر التفاؤل والثقة فى أن الشعر لا يموت بقدر ما يعيد خلق نفسه فى سواه من الفنون، وكأنه يكتب - بطريقته وحسب تجربته - مقال الشاعر الإنجليزى الشهير شيلى «دفاع عن الشعر»، مضيفًا إليه بعضًا من «الهجوم على الشعراء» ممن ورطوا الشعر العربى فى المآزق الجمالية لما بعد الحداثة. غير أن فى الباب دفاعا ضمنيا عن النفس كذلك بإزاء الاتهامات المتكررة التى وُجِّهت لفضل بخصوص تعزيزه الذائقة العربية التقليدية القبلية من خلال مشاركته فى التحكيم ببرنامج «أمير الشعراء»؛ إذ يرى، بتمرس السياسى الذى خبر أن الوصول لحلول وسط من حسن الفطن أحيانا، أن استعادة الجماهير حديقة الشعر بروائحها التقليدية الجميلة ربما تكون مكسبا ليس من الحكمة التضحية به من أجل دعوة لن تُجاب لحديقة بديلة، لا تستطيب أنوفهم روائحها، مع تأكيد أن ذلك قد جرى وفقا لشروطه الخاصة وعلى رأسها استبعاد شعر المديح من المنافسات فى المسابقة العربية الأشهر.

حسناء العصر.. المغدور بها

ربما لو تتبعنا الكتاب تتبعا دلاليا مفيدين من علوم الإحصاء لوجدنا أن الحقلين الدلاليين الأكثر استعمالا هما «الديكتاتورية» و»الديمقراطية». يتغنى فضل بالديمقراطية، معشوقته الأثيرة، ويعدد محاولاته فى الباب الثالث «نص الوثائق» تحديدا لإنقاذها من مطرقة الإسلام السياسى أحيانا بعد أن حاول إنقاذها من سندان الاستبداد المباركى حينا، من خلال استعراض تجاربه فى حوارات الأزهر والمثقفين، والمحاولات التى ضاعت هباء لتعديل صياغة دستور 2012، ولجنة الصياغة لدستور 2014. تتكلّم الوثائق فى هذا الباب ويتراجع إلى الخلفية التعاقد السيرى الذى يلتبس فيه الواقع بالخيال. وبقدر ما يُعجب المرء بإصرار المؤلف على أن ينضبط الإجراء الديمقراطى بمبادئ الحريات والاستنارة الفكرية، فإنه يود أن يفتح الكتاب وما فيه من تجارب نقاشا اجتماعيا أوسع حول التصور المأمول للديمقراطية فى منطقتنا العربية، فى عصر باتت فيه الديموقراطية التمثيلية نفسها محل تساؤل حقيقى مشروع، وقد شهدناها فى العقد الماضى تصعد باليمين المتطرف والقوميين الفاشيين فى بعض بقاع العالم. هل يحتاج الإجراء الديموقراطى إلى مبادئ حاكمة تحميه من الانجراف ليكون غطاء للاستبداد؟ وإذا كان المثقفون والمستنيرون وأصحاب التجارب الحضارية المنفتحة هم المضطلعين بأداء هذه المهمة فيما يرى المؤلف، فكيف تتحول هذه الحماية من محض مبادرة فردية أو جماعية إلى إجراء مؤسسى منظم؟ هل تحتاج الديمقراطية فى صورتها المأمولة الجديدة إلى هيئة عليا تضمن لها الرشد إذا خضعت الجموع لأهواء التطرف والإقصاء وتغليب المصالح الفردية؟ وما عساها تكون تلك الهيئة؟ أظن أن ذلك سؤال المستقبل الذى يحفزنا الكتاب ضمنيا للإجابة عنه.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق