رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أطلق الرصاص على نفسه فى مثل هذا الشهر قبل 06 عاما
همنجواى.. عنفوان الحياة ولغز الانتحار!

محمد بركة

فى الثانى من يوليو 1961، أمسك واحد من أعظم أدباء الولايات المتحدة والعالم بندقية صيد كان يطارد بها الحيوانات فى برارى إفريقيا وصوب فوهتها نحو رأسه وضغط على الزناد لينهى حياته بيديه مخلفا واحدا من الألغاز الكبرى فى التاريخ الأدبى بالقرن العشرين: لماذا أقدم الرجل على الانتحار وهو المعروف بعشقه للحياة التى قضاها فى المغامرات والسفر والترحال؟ لماذا رفض أن يستمر فى العيش وقد دانت له الدنيا فحصل على الشهرة والأموال ثم جائزة نوبل؟ تزوج أربع مرات وكان معشوقا للنساء بسبب وسامته الشديدة وملامحه الجذابة فلماذا قرر فى لحظة هاربة من الزمن أن يكتب بيده سطر النهاية فى كتاب حياته؟

.....................



لم يكن إرنست همنجواى المولود فى 21 يوليو 1899سوى روح قلقة كأنها تمتطى الرياح، تغوص فى كتاباته التى حصد عنها أرفع الجوائز العالمية فتوقن أنها مكتوبة بالدم والأعصاب المحترقة. هكذا حازت أعماله مثل «العجوز والبحر» على مقعد دائم فى مملكة الخلود، لكن الرجل كان يهوى بشدة تذوق طعم الحياة على لسانه بمرها قبل حلوها، فرفض أن يعتلى برجا عاجيا مكتفيا بالإبداع والتنظير من على مسافة آمنة!

الكتابة على وقع الانفجارات

فى الحرب العالمية الأولى، قرر أن يخوض تجربة القتال وجها لوجه فانضم إلى الجيش الإيطالى لكن تم استبعاده بعد الكشف الطبى نتيجة ضعف بصره فتم الاكتفاء بالسماح له بقيادة سيارة الإسعاف على الجبهة. وهناك أظهر شجاعة نادرة استحق بسببها الحصول على وسام النجمة الفضية لكنه أصيب إصابة بالغة وقضى فترة يتلقى العلاج بمستشفى بميلانو. فى أثناء إقامته للعلاج، تعرف على الممرضة الجميلة أجنس كوروسكى التى كانت تكبره بتسعة أعوام. وقع فى غرامها وطلب يدها للزواج، كان يروق لها لكنها كانت تفضل نمطا آخر من الرجال أكبر سنا وأكثر خبرة ودراية بالحياة. تخرج لمواعدة ضباطا وتسهر مع أطباء فيأكل قلبه الألم، فتحاول التهوين ومواساته:

ــ لا تكن أحمق أيها الوسيم، كل ما فى الأمر أن الحياة قصيرة للغاية ولابد من اقتناص كل لحظة سعادة، فالموت يحاصرنا.

يرد عليها صادقا:

ــ فلنمت إذن عشقا!

ثم يضيف بنبرة شديدة الجدية:

ــ أريد أن أتزوجك الآن!

تضحك:

ــ وكيف سنتزوج وأنت تقف على عكازين؟

ثم تضيف:

ــ سأتزوجك أيها المجنون فور انتهاء الحرب،ولكن حذار فأنا شديدة الغيرة وأنت شديد الوسامة!

انتهت الحرب، وعاد للولايات المتحدة. طلبت منه أن يسبقها إلى موطنهما ثم تلحق به. أصبح تبادل الرسائل حمى يغرق فيها الاثنان. يسميها «حبى الأول والأخير» وتسميه «الوسيم». تخبره أنها لن تكف عن مراسلته «مع أنك أنت الكاتب وأنا مجرد بائعة زهور فى نيويورك قبل التطوع كممرضة» لم تف بوعدها فتأثرت حالته النفسية بشدة. لم يكن هناك أفضل من الكتابة سبيلا لمداواة جرحه العاطفى فأبدع رائعته الخالدة «وداعا للسلاح» التى تُروى على لسان ضابط أمريكى برتبة ملازم يلتحق بالجيش الإيطالى، وتحديدا بالمستشفى الميدانى، ويقع فى حب مواطنته كاترين باركلى ويرصد أجواء الحرب والنزوح وهزل الجنود على خلفية العلاقة الغرامية. حققت الرواية مبيعات هائلة وحفرت اسم همنجواى على خارطة الأدب الأمريكى كما تم تحويلها إلى فيلم ثم مسلسل لاحقا. سيعرف همنجواى الكثير من النساء. سيصبح مزواجا فيتزوج أربع مرات لكنه لن يعرف أبدا هذا الشغف الذى عاشه مع «أجنس».

التغريبة الإسبانية

عمل همنجواى مراسلا صحفيا لتغطية الحرب الأهلية الإسبانية التى اندلعت 1936 ويعتبرها كثيرون « بروفة للحرب العالمية الثانية» بسبب تعدد مستويات الصراع السياسى والعسكرى والقومى فضلا عن التدخلات الدولية والإقليمية. أغرم صاحب نوبل بمصارعة الثيران لكنه أغرم أكثر بالتمرد على أساليب الكتابة القديمة التى ترزح تحت المحسنات اللفظية والحليات البلاغية المبالغ فيها والتى تأتى كعبء على رشاقة وحيوية النص الروائى. تعلم الرجل درسين من الصحافة: البساطة والاختصار، فلا يبقى فى نصوصه على أى عبارة يمكن حذفها، فقد كان يرسل تقاريره الصحفية بالتلغراف حيث التكلفة تحسب بالكلمة وبالتالى فلا مبرر لكتابة كلمة واحدة زائدة، كما كان عليه أن يستخدم لغة واضحة ومباشرة. استلهم من تلك التجربة روايته الشهيرة « لمن تدق الأجراس» والتى تسير على غرار «وداعا للسلاح « فى الجمع بين المعارك الحربية والحب فى حبكة واحدة، فروبرت جوردون شاب أمريكى يسافر إلى إسبانيا منضما للقوات الشيوعية بصفته خبيرا فى المتفجرات لكنه يلتقى «ماريا» التى دمرت الحرب حياتها ويقع فى غرامها. يتلقى فى الوقت نفسه أمرا بتدمير أحد الجسور مستعينا بمجموعة من المقاتلين الذين يعيشون بالجبال القريبة لكن تنفيذ هذه المهمة سوف يفاقم مأساة حبيبته فيعيش صراعا بين واجباته كمقاتل وبين ضميره الإنسانى والعاطفى.

نوبل ولكن

فى عام 1954، حصل همنجواى على جائزة نوبل عن روايته «العجوز والبحر»، لكنه فى الواقع لم يسعد بها كثيرا فقد كان يرى أن هناك كتابا آخرين أجدر منه بهذا التكريم، محددا ثلاثة أسماء هى كارل ساندبرج، إسحاق دنيسين، بيرنارد بيرنسون. رفض أن يذهب لاستلام الجائزة وأناب عنه سفير بلاده بالسويد لكنه لم يمانع فى الحصول على القيمة المالية لها نظرا للظروف المادية السيئة التى كان يعيشها. فى هذا التوقيت كانت ميوله الاكتئابية بدأت تطل برأسها مثل جمل عجوز على صفحة حياة كاتب يحمل تاريخا عائليا شديد السوء مع الانتحار، فقد فعلها أبوه ثم كررت أخته «أورسولا»، وأخوه «ليستر»، وابنه الأصغر «جريجورى» وزوجته السابقة «مارثا جيلهورن»، وحفيدته عارضة الأزياء الشهيرة «مارجو هيمنجواى». سبع حالات انتحار ترسم بالدم ملامح لعنة وتكتب مفردات أسطورة شديدة الكآبة والغموض. طاب له المقام فى كوبا «الجزيرة الساحرة والفقيرة والملهمة» والتى قضى فيها ما يقرب من عشرين عاما واستوحى منها أحداث روايته الأشهر «العجوز والبحر». وعندما قامت الثورة الكوبية عام 1959، كان من المتحمسين لها على أرضية المبادئ الإنسانية التى رفعتها فى البداية. غادر كوبا عام 1960 بسبب إحباطه من السياسات التى تبناها زعيم الثورة فيدل كاسترو، لكن يقال إن السبب الحقيقى كانت الضغوط التى مارستها سلطات بلاده ضده حيث أوضحت له بجلاء أن بقاءه فى بلد يعادى الولايات المتحدة يعد بمثابة خيانة متكاملة الأركان.

ما يعزز الرواية الأخيرة هو بعض الأدلة التى أفرج عنها فى الثمانينيات والتى تشير بوضوح إلى أن جهاز التحقيقات الفيدرالى الأمريكى FBI كان يضرب عليه مراقبة لصيقة بسبب شبهات حول ولاء الكاتب الأشهر للنظام الكوبى. ويؤكد بعض كتاب سيرة همنجواى الذاتية أنه كان يشكو من شعوره بالمراقبة طوال الوقت مؤكدا أن اضطر لاستخدام سيارة بديلة لأن سيارته الأصلية مليئة بجميع أجهزة التنصت ورسائله تصله مفتوحة وأصبح من المستحيل أن يتصل بالهاتف: أعيش فى جحيم حقيقى!

هكذا يلخص مأساته فى كلمات قليلة.

وربما هذا ما دفع البعض للتأكيد أن الـ FBI هو المسئول عن تزايد الضغوط العصبية عليه وغرقه فى الاكتئاب على نحو أفضى به إلى واقعة الانتحار التى سبقها الكثير من التاريخ المرضى النفسى والعصبى والتى استلزمت الكثير من العلاج بالصدمات الكهربائية. تلك الصدمات التى اتهمها همنجواى نفسه بتدميره نفسيا حيث محت الكثير من ذكرياته ما فاقم حالته المتدهورة.

ولأستاذ الطب النفسى د. أحمد عكاشه تعليق شهير على تلك الواقعة: حيث يؤكد أن الأطباء تعلموا من انتحار همنجواى أن العلاج يجب أن يكون تدريجيا مع إبقاء المريض الذى وصل لمرحلة متقدمة من « الاكتئاب التخشبى « تحت الملاحظة حتى لا يقدم على الانتحار. وكان همنجواى تلقى جرعة علاج مكثفة بالجلسات الكهربائية أعادت له قواه فانتحر!

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق