منذ فجر الحضارة المصرية القديمة اشتهر المصريون بعلاقتهم الوطيدة بالطعام حتى إن المصرى القديم كان يصطحب معه الطعام إلى العالم الآخر لذا تم وضع الأطعمة فى المقابر، تلك العلاقة لم تقتصر فقط على التنوع فى أصناف الطعام بل أيضا باعتباره ركنا ووسيلة مهمة فى بناء العلاقات الاجتماعية والعائلية ومد جسور التواصل مع الآخرين،. بل أيضا كان الطعام والجوع وما يدور حولهما أداة لدروس مهمة استندت عليها ووظفتها الأمثال الشعبية كرافد رئيسى ضمن روافد الثقافة الشعبية المصرية.
صعيد مصر هو منجم يزخر بالتراث الشعبى الذى توارثه المصريون المعاصرون من أسلافهم القدماء، بالإضافة إلى ما توارثته الأجيال المتعاقبة. فى كتابه «طبيخ الصعايدة: دراسة حول الطعام وأنماط التغذية الشعبية فى صعيد مصر»، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، يؤكد خبير التراث الشعبى درويش الأسيوطى أن »المطبخ«، هو تعبير عن الثقافة التى أنتجته، وتجسيد لقيم المجتمع ونظرة الإنسان إلى العالم، ويختبر تلك النظرة بكتابه الذى يرصد فيه أصناف الطعام وأنماط التغذية الشعبية فى صعيد مصر الأوسط، وهى المنطقة التى تشغلها محافظات المنيا وأسيوط وسوهاج. ويعد الصعيد الأوسط من أكثر المناطق فقرا بمصر، نظرا لضيق المساحة القابلة للزراعة على جانبى النيل، وعدد السكان المتزايد، والذى دفع بالكثير من أبناء وسط الصعيد إلى الهجرة شمالا إلى القاهرة، والإسكندرية، ومدن القناة. يحمل هذا الجزء من صعيد مصر الكثير من العوامل المشتركة فى اللهجة والتراث، وكذلك القيم والأخلاقيات التى تطبع الصعيد كله كوحدة واحدة.
الأمثال الشعبية عن الطعام تحتل الجزء الأول من الكتاب لتعكس الوظائف الاجتماعية التى تتمحور حول الطعام مثل القيم، والحكمة، والخبرات والمعارف كما تكشف الحضور الطاغى للطعام فى التراث الشعبى، فيأخذنا فى جولة طريفة حول دلالات تلك الأمثال وكيف ربط المصرى والصعيدى بشكل خاص بين الطعام والحكمة والقيم الاجتماعية والأخلاقية . أيضا نجد أن الطبيعة كانت لها أحكامها على الصعيد كما هو الحال فى مصر منذ القدم، مما دفع البشر إلى الإبداع فى الادخار والتخزين. فنون تخزين واستهلاك الحبوب، والخضراوات، ومختلف الأطعمة تكشف جانبا آخر من الحياة الاجتماعية بالصعيد والعلاقة بينها وبين الظروف الاقتصادية وخبرات الأجداد المتوارثة.
وأخيرا ندخل إلى المطبخ الصعيدى لنتعرف عن قرب علي «طبيخ الصعايدة»، بداية من أدوات المطبخ الصعيدى المتميزة وأوعيته، مثل المنطال، وهو وعاء فخارى يدفن بما داخله بعد إغلاقه جيدا فى تراب الفرن الملتهب، حتى ينضج ما بداخله، والمفراك الذى يعادل مضرب البيض والخلاط الكهربائى بالمطبخ الحديث، والرحاية التى تقوم بعمل المطحنة الكهربائية لطحن الحبوب، وغيرها. ثم تبدأ عملية تحضير الوصفات، كطبخ الحبوب مثل: القمح، والذرة، وحمص الشام، والعدس الأصفر وأبو جبة، والفول الأخضر، والنابت والمدمس، ثم طبخ الخضراوات مثل: البيصارة، والعصيدة، والمرق، والويكا والبرانى، والملوخية، والخبيزة، والرجلة، والسبانخ، والمحشى، وأخيرا المشهيات الطازجة والمخللات.
يلفت الأسيوطى إلى أنه على الرغم من ميل المصريين إلى التنوع فى أطعمتهم إلا أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التى يتميز بها هذا الجزء من الإقليم جعلت الصعيدى قانعا إلى حد الاكتفاء بنوع واحد من الطعام أو نوعين عند استضافة الضيوف أو فى المواسم والأعياد، وهو ما عبر عنه المثل الشعبى «إذا كثرت الألوان.. تبقى من طبيخ الجيران» حيث لا سبب لتعدد ألوان الطعام على المائدة إلا أن يكون التعدد نتيجة هدية من الجيران. ويبدو أن ذلك يرجع لانشغال الصعيدى بأمور أهم من الطعام مثل السيرة الحسنة بين الناس، كما ذكر المثل الشعبى «الصيت ولا الغنى». وبالنظر إلى طبيخ الصعايدة ووصفاته فى سياق ثقافى واجتماعى أوسع نجد أنه على الرغم من الاختلافات الاقتصادية والقيود المفروضة على الحصول على بعض الأطعمة، فإن الأطعمة المريحة والمتاحة وغير المكلفة أصبحت رمزا وتقليدا عتيقا بالصعيد تتجاوز قيمة هذه الوجبات الاقتصاد لتكتسب مكانة خاصة فى وعى الثقافة والتراث الشعبى الصعيدى، خاصة إذا نظرنا إلى الطعام بكونه قادرا على خلق المجتمع وربطه من خلال شبكة من المعانى الرمزية. هذه الإمكانية الرمزية الأخلاقية واضحة بشدة فى التقاليد الغذائية الصعيدية والأمثال الشعبية التى تربط بين الطعام والمجتمع على أساس الأعراف الاجتماعية الراسخة، والأخلاق والقيم والسلوك السليم، ومن ثم تصبح هذه القواعد والأعراف متعمقة فى كل مشاركة وممارسة يتم توطينها فى المجتمع بما فيها العادات الغذائية مما يؤكد أن المطبخ يمكنه أن يكون بلاشك مرآة للمجتمع .
رابط دائم: