لا يمكن للمرء أن يتجاهل الجوانب الثقافية والاجتماعية عند دراسة الطعام، فالطعام هو وسيلة رئيسية للتفاعل الاجتماعى . كما يسلط الضوء على الجوانب الخفية لعلاقات القوة والنفوذ بالحياة الاجتماعية بوصفه يعكس طبيعتنا الأساسية حول العادات والسلوكيات الاجتماعية والتحول والمشاركة. وهو ما تحاول عالمة الآثار كريستين آن هاستورف تسليط الضوء عليه فى كتابها «علم الآثار الاجتماعى للطعام: التفكير فى الأكل من عصور ما قبل التاريخ حتى الحاضر» مقدمة منظورا عالميا للدور الذى لعبه الطعام فى تشكيل المجتمعات البشرية، من خلال الهويات الفردية والجماعية.
تبحث هاستورف تأثير إعداد وجبة الطعام كعامل اجتماعى فى تشكيل المجتمع والاقتصاد والثقافة والهوية، وذلك عبر دراسة الحياة الاجتماعية للطعام، وما يرتبط بها مثل الذوق والممارسة وصناعة الوجبة لاستخدامها فى مناقشة قضايا السلطة والهوية والنوع الاجتماعى والمعنى الذى يشكل عالمنا كما شكل مجتمعات الماضى.
تؤكد هاستورف أن فهمنا لكيف أن »الطعم أو النكهة« ظاهرة ثقافية تعكس التغيير والتمايز الاجتماعيين أمر مهم لأنه يعكس العمليات الاجتماعية والسياسية للسيطرة والسلطة. ولتوضيح هذه العمليات، تقدم لمحات عامة عن كيفية تطور الذوق المتحضر فى أوروبا والصين وتناقش كيف يرتبط الذوق والمحاكاة والمكانة الاجتماعية ارتباطا وثيقا بعملية حضارة الطهى وتطوره. قوة وجبات الطعام هنا لا يمكن فهمها خارج السياق الأوسع الذى توجد فيه ؛ فالوجبات »متضمنة فى مطبخ مكون ثقافيا« لذا تأخذ هاستورف فى الاعتبار دور الطهى فى اقتصاديات الذوق الاجتماعى والطرق التى يتأثر بها تاريخ المطبخ بالاضطرابات الاجتماعية والسياسية الناجمة عن المجاعة والغزو والهجرة وعوامل أخرى.
المذاق والذوق، هما قوة ثقافية مهمة انطلاقا من كونهما وعيا بالاختلاف. الذوق الفريد والذوق السيئ والذوق الجيد يتم إنشاؤهم من خلال التجارب الحسية التى يتم ترشيحها ثقافيا واجتماعيا.تعمل عناصر الذوق فى اختيار الطعام واستهلاك السلع بحياتنا . عبر التاريخ؛ تبين أن الأغنياء استمروا فى توسيع خلافاتهم المتجسدة من خلال آداب المائدة وأذواقهم بإضافة النكهات الغريبة وتقاليد الطهى الجديدة . يشاع أن المطبخ الراقى انتقل من إيطاليا إلى فرنسا عندما رافق الطهاة كاترين دى ميديشى التى ارتبطت بالبلاط الفرنسى بمنتصف القرن السادس عشر، لينتشر من فرنسا إلى أنحاء أوروبا بعد ذلك. هذا الحدث أضاف نمطا ثقافيا جديدا انعكس على مجموعة من الظواهر المادية الأوروبية: الهندسة المعمارية، والفن، والأثاث. المدهش حقا هنا أن كل ذلك بدأ من خلال تغيير المذاق الأساسى للمطبخ وبالتالى تغير ذوق المستهلكين، حيث يرتبط تغيير المأكولات بتغييرات أخرى فى جميع أنحاء المجتمع، ومن ثم يمكن للمطبخ تجسيد التغييرات الاجتماعية بمهارة أكثر من العناصر الاجتماعية الأخرى.
يتضمن البحث المتعمق أيضا حول سياسات الطعام الطرق التى يتم بها نشر الأيديولوجيات والأفكار السياسية من خلال الوجبات ؛ كيف يتم تقديم الأطعمة وتناولها، والقواعد التى تحكم السلوك المناسب وتعزز الفروق الطبقية. عادة ما ترتبط التحولات الرئيسية فى المطبخ بالاضطرابات الاجتماعية أو السياسية،يتضح ذلك عندما يجبر الناس على تناول أنواع محددة من الطعام كما حدث فى أيرلندا أثناء المجاعة الكبرى أو مجاعة البطاطس بمنتصف القرن التاسع عشر.
لا يمكن تجاهل ارتباط دراسات الغذاء بتاريخ طويل من الاقتصاد . غالبا ما يتم التعبير عن عدم المساواة فى الغذاء بأسماء مختلفة للتغطية على الأزمة الحقيقية مثل التقاليد أو تفضيلات الذوق حيث يصبح الوصول لأصناف معينة هو النقطة المحورية للتحكم، وللأسف عدم المساواة الاقتصادية هو جوهر هذا التاريخ المدفوع بعوامل الرغبة والمحاكاة والعبودية والاستعمار.لعل من أبرز الأمثلة على ذلك الرغبة الإنجليزية فى السكر بالقرن السادس عشر، التى أصبحت متداخلة مع التوسع بإنتاج المنسوجات بأمريكا الشمالية، مدعومة بتجارة الرقيق بإفريقيا. بينما قصب السكر تم استيراده من الشرق الأوسط وإرساله لجزر الكاريبى .تم إحضارالعمال العبيد من إفريقيا لإنتاجه. هذا المحرك المزدوج للرغبة،من أجل المال والتحلية، ولد الهويات الطبقية من خلال التحكم فى الوصول للسكر عبر الأسعار المرتفعة، والتحكم فى حياة البشر من خلال تبنى تقاليد العبودية دوليا. استمرت تجارة الرقيق فى بريطانيا، والولايات المتحدة طوال هذا التاريخ لإظهار رغبة قوة الذوق فى الحفاظ على عدم المساواة داخل الاقتصاد الرأسمالى. قبل عام 1600 فى بريطانيا، لم يكن السكر اساسيا بل كان ترفا وسلعة مرتفعة السعر لا يمتلكها سوى النخبة ولكن مع مرور الوقت انخفض السعر، وأصبح متاحا لكافة الطبقات بحلول عام 1850 .
إلى جانب الاقتصاد؛ تبرز هاستروف كيف تتفاعل السياسة أيضا مع المطبخ، وكيف تشارك الأنشطة الغذائية فى تحديد المواقع السياسية للأفراد، والجماعات، والحكومات. تؤثر القرارات السياسية على المأكولات،و من الأمور المهمة فى مناقشة الطعام، الاعتراف بأن تطوير تقاليد التذوق والأطعمة(مثل رقائق البطاطس والهامبرجر) يمكن أن تصبح رمزا ليس فقط لطبقة بعينها ولكن أيضا لأمة مثل الأمة الأمريكية. بالطبع السياسة تشارك فى تقاليد الطعام. نقرأ عن أمركة العادات الغذائية للآخرين ورد الفعل المختلط على هذه التغييرات مثل قبول وجود سلاسل مطاعم ماكدونالدز الأمريكية بالصين رغم الصراع الصينى الأمريكى وكذلك بالشرق الأقصى فى نفس الوقت الذى رفضت فيه كوريا واليابان استيراد لحوم الأبقار الأمريكية، وأيضا انتشار مطاعم السوشى اليابانية عبرأمريكا وأوروبا. تكشف هذه الأنشطة عن التطلعات السياسية للحكومات التى تساعد هذه الشركات على فتح أسواق جديدة .
يمكن أن يبدأ تغيير الموقف السياسى للمرء بتغيير عادات طعامه، ويمكن أن تؤدى الأهداف السياسية إلى إعادة تقييم الممارسات اليومية مثل أنماط الأكل والملبس والسلوك والكلام والمسكن.هذا التلاعب فى تقاليد الطعام لا يحدث دائما بهدوء أو دون وعى. كما حدث مع تقليد إضافة الصلصة الذى قفز من الإيطالية إلى الفرنسية أو التمايز بين طبقة النبلاء الفرنسيين وبقية طبقات المجتمع مما أدى إلى ظهور مناقشات أيديولوجية حول وصفات الخبز خلال فترة الثورة الفرنسية. يرتبط الطعام أيضا بالهوية لكونه بالنهاية فعلا اجتماعيا .يتم إنشاء ثقافات الطعام من خلال الذكريات. الوصفات تنتقل من الأجداد والآباء والأقارب لاستحضار ذاكرة العائلة والحفاظ عليها، فيصبح الطهى تجربة لصنع الهوية كما يرتبط الأكل مع خبرات وذكريات عاطفية، كل من هذه الأفعال هو بناء للعلاقات الاجتماعية التى يتم لعبها حول طاولة الطعام. يتم إنشاء الهوية من خلال أفعال الأكل الاجتماعى. فمثلا فى منطقة تيريزين التى كانت تضم معسكرا للاعتقال خلال الحرب العالمية الثانية، كتبت النساء وصفات الطعام المتوارثة على حوائط المعتقل، خلال محاولتهن الشعور بالهوية والمجتمع عبر تذكر الوصفات مما يوضح القوة النشطة للذاكرة الاجتماعية عبرالتحدث عن الأطعمة والوصفات السابقة التى يتصل بها الأشخاص وتذكرهم بعوالمهم الاجتماعية الماضية وأنفسهم.
تستكشف هاستورف النظرية الاجتماعية حول العلاقة بين تكوين الهوية وتطوير التقاليد الغذائية والتلاعب بها، وكيف يمكن للطعام من خلال فعاليته الرمزية أن يعمل على حذف ووصل الروابط بين الناس ؛ كيف يمكن للممارسات والقواعد الغذائية أن تضع الحدود بين المجموعات ؛ وكيف تحدد المجتمعات من خلال الأطعمة المميزة، وكيف تشكلت الحدود الثقافية عبر الممارسات الغذائية خاصة فى فترات الاستعمار. العلاقة بين الهويات والممارسات الثقافية والطعام موجودة فى كل مكان. تتجسد الهوية ببساطة من خلال العمليات الخاصة بإعداد الطعام، وتقاليد الطهى التى تشمل المنافسة والتعاون والاندماج الاجتماعى والإقصاء. لذا ليس من الغريب أن يتم تفعيل قوة العادات الغذائية والهوية فى أوقات الاضطرابات السياسية لتصبح كل لقمة إعلانا للهوية ولموقف ما.
رابط دائم: