الكتابة الساخرة نوع من الأدب النادر يتعرض للقمع من الاحتلال
لأن القضية الفلسطينية تحتاج فى هذه المرحلة الحرجة من تاريخها إلى يقظة, فى تسليط الضوء على تاريخها, من التشويه والتزوير, سواء كان بالتوثيق ضد أخطر حرب تمارسها إسرائيل على الفلسطينيين وهى حرب الهوية, وبالذات فى مدينة القدس, أو من خلال الكتابة الأدبية الساخرة التى تنتقد الأوضاع السياسية الداخلية والخارجية فى قالب ساخر, فإن الكاتب الساخر والمؤرخ الفلسطينى »حسام أبو النصر« جمع بين الحسنيين, فهو رئيس مجلس بيت القدس للدراسات والبحوث الفلسطينية, وعضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين, وله عدة مؤلفات فى التاريخ منها أقباط بيت المقدس, كلام رصاص, ثورة الكف الأخضر, تاريخ مخطوطات فلسطين وكتب أخري, حول العديد من القضايا الساخنة التقت الأهرام بالمؤرخ والكاتب الفلسطينى »حسام أبو النصر« ليلقى الضوء على أهمية توثيق التاريخ الفلسطينى كرديف للرواية الإسرائيلية, وكيفية تناوله للقضايا الفلسطينية الملحة بالنقد اللاذع من خلال كتاباته الأدبية الساخرة فى هذا الحوار:
أطلقت حملة لمحاربة الاحتلال بالكلمة والتوثيق عام 2006, ووثقت أكثر من 15 ألف صورة مخطوط وكتاب حجرى ومواقع أثرية فى غزة. هل تعتبر التوثيق حائط صد يدحض الرواية الاسرائيلية بأحقيتها التاريخية فى فلسطين؟ وهل لاقت الاهتمام الدولي؟
منذ سنوات طويلة ومبكرة كرست عملى الوطنى باتجاه الحفاظ على الإرث التاريخى والآثار والمخطوطات وتوثيقها, باعتبار أن أخطر حرب تمارسها إسرائيل على الفلسطينيين, هى حرب الهوية, وتقوم باستهداف هذا الإرث لصالح روايتها المختلقة لتكون رديفا للآلة العسكرية والحركة الإمبريالية التى تقوم بها منذ عام 1948. للأسف المجتمع الدولى ينظر للقضية الفلسطينية على أنها قضية إنسانية, وليست صراع هوية, وتنصب كل جهوده ومساعداته فى هذا الإطار, وجانب الهوية والتاريخ غير معنيين به, لكن جهودنا منذ أكثر من عشرين عاما مستمرة بهذا الاتجاه, أو مايقدم رسميا لوزارات ومؤسسات رسمية عبر »اليونسكو والألسكو«, وليس للمؤسسات الخاصة التى تعنى بذلك وحتى ما يقدم للمؤسسات الرسمية يكون مشروطا.
قمت بتأسيس بيت القدس للدراسات والبحوث الفلسطينية وهو جهد يحتاج إلى التدقيق والأمانة العلمية. ما هى العقبات التى واجهتك للحفاظ على توثيق التاريخ الفلسطينى من التشويه والتزوير الإسرائيلي؟
جاء تأسيس بيت القدس للدراسات والبحوث الفلسطينية بناء على ما سبق, لإيمانى العميق أن هذا الطريق مهم فى النضال الفلسطينى إلى جانب الأشكال الأخرى من النضال وهو الحفاظ على التاريخ, وإعادة كتابة تاريخنا بشكل صحيح من خلال الدلائل المادية والأثرية التى عملت إسرائيل على إخفائها وسرقتها وطمسها وتهويدها, وقد ساهمت الآثار المصرية, ومنها رسائل تل العمارنة, ومكتشفات معبد الكرنك فى حفظ التاريخ الكنعاني, حيث ذكرت 119 مدينة كنعانية ونقوشا وكتابات دالة على المراسلات للملوك آنذاك, وقد أصدرت بيت القدس كتبا جديدة هذا العام حول إعادة كتابة التاريخ الفلسطيني, وكنا نتمنى أن يشارك فى معرض الكتاب الدولى الـ 52 هذا العام, لكن الاجراءات الاحتلالية حالت دون ذلك خاصة أننا فى حالة عدوان مستمر, وعدم استقرار الأوضاع فى غزة والقدس والضفة والداخل المحتل. وكل هذه الجهود تدحض الادعاءات, ومحاولات اسرائيل لتزوير الحقائق, وهى خارطة طريق للباحثين والمؤرخين لإعادة كتابة هذا التاريخ الذى لم تتوقف يد العبث عن دس روايتها المزورة.
الدعاية الصهيونية فى إثباتالإدعاء بحق إسرائيل فى فلسطين, أقوى تأثيرا من دعاية أصحاب الحق الأصليين, بدليل الاعتقاد السائد على نطاق واسع بأن الفلسطينيين باعوا أراضيهم لليهود. ما هو الدور المنوط بكم لتصحيح هذه الرواية ومحوها من سجل التزييف الذى تحاول اسرائيل ترسيخه بالتزوير؟
أول دليل على عدم مصداقية هذا القول أننا الآن فى أرضنا, ونقاوم ببقائنا, فكيف بعنا الأرض ونحن فيها؟!
وكيف لاثنين مليون فلسطينى ظلوا فى الداخل أن يكونوا باعوا أرضهم, كل هذه الدعاية هدفها التغطية على ما حدث عام 1948, وما قامت به العصابات الصهوينية من عمليات ترانسفير وإبادة ضد الشعب الأصلي, لإخراجه من أرضه. والنتيجة اليوم أننا باقون والقضية حية, وقد تداركنا مؤخرا كفلسطينيين ضرورة الاستعانة بالتاريخ الشفوى لجمع أكبر عدد من الشهادات لإناس عايشوا النكبة والتهجير لتوثيق كل ذلك وقد نجحت الجهود إضافة لما قام به مؤرخون فلسطينيون فى هذا الإطار, وأعتقد نجحنا فى ذلك, والأمور تغيرت حتى بالنسبة للرأى العام الدولى أصبحت الرؤية أكثر وضوحا تجاه القضية الفلسطينية, على رغم التعنت الامريكى ودعمه اللامحدود للآلة الإسرائيلية والاحتلال.
تميزت بالكتابة الساخرة الهادفة كطلقات الرصاص, وأصدرت مؤخرا كتاب «كلام رصاص» الذى يناقش جملة من القضايا الوطنية. ماطبيعة الرصاص الذى استخدمته؟ وماهى الرسالة التى أردت إرسالها من خلال هذا النوع من الكتابة الساخرة؟
الكتابة الساخرة نوع من الادب النادر لتنوع وغزارة أدواته الفكرية فى محاولة ايصال أى فكرة بطريقة سهلة ومبهجة وهادفة لأكبر عدد من الجمهور بأقل الكلمات الممكنة وهو ادب قديم، لكن فى عالمنا الفلسطينى لم يعرف طريقه او لم يأخذ صداه بسبب مواجهة كاتبيه سواء من قوة الاحتلال، أو من السلطات لأنه يشير بأصابع النقد لكل الممارسات الاجتماعية والسياسية والثقافية الشائبة فى مجتمعنا الفلسطيني, وهذا لا يتحمله البعض خاصة السلطات فى غزة وفى الضفة, باعتبار أن النقيض الأساسى هو الاحتلال, ولا يجب أن ننتقد سوى الاحتلال, لكن نحن كأى بلد عربى والأهم الانقسام الذى أرق الحالة الفلسطينية, وهذا جعلها مادة مهمة فى كتاباتى على مدار سنوات طويلة, للضغط على دعم الحوار وإعادة البوصلة نحو الوحدة. الكتابة الساخرة حققت اختراق, وزادت الوعى لدى الفلسطنيين, وجعلت هناك حالة استنهاض للأقلام باتجاه قضايا رئيسية يجب معالجتها, لنستطيع مواجهة الاحتلال.
هل تعتقد أن الأدب الساخر يمكن أن يكون له نفس التأثير السياسى المباشر ؟
طبعا الأدب الساخر أهم وسيلة للتاثير على المجتمع, وإثارة الرأى العام نحو القضايا القومية, خاصة فى مواجهة الاحتلال والفساد, وتفتح مدارك الوعى التى يحاول تغييبها سواء السياسيين على مجتمعهم أو الاحتلال على محتليه, وهو إعادة تصحيح وتوضيح لما هو مبهم فى السياسة العامة, ويطرح كل الامور بطريقة واضحة ساخرة للجمهور ليتقبلها ويستقبلها ويحللها بما يسهم فى إدراكه الفردى الذى يعزز الإدراك الجمعى لحل قضايانا العامة ومواجهة الاحتلال.
هل هناك معايير للكتابة الساخرة رغم ندرتها؟ ومن أهم روادها برأيك؟
أعتقد أهم رواده ظهروا فى مصر باعتبارها الأقدم فى التعامل مع هذا النوع, فهى تمتد للفراعنة الذين استخدموا الكتابة الساخرة فى نقوشهم القديمة, وفى كتاباتهم الهيروغلفية, وصولا لكتاب مصر الساخرين فى التاريخ المعاصر منهم محمود السعدني، وأحمد رجب وجلال عامر وغيرهم, وأيضا من الكتاب العالميين جورج برنارد شو, واعتقد أن القراء هم من اكتشفوا أنهم ساخرين, أى أنهم لم يفرضوا أنفسهم ككتاب ساخرين, وأصبحوا رموزا لهذا النوع من الأدب والفكر الذى بالتأكيد انعكس على أجيال. وأنا شخصيا قدر لى أن اقرأ لهم أكثر بعد أن دخلت هذا المجال فى الكتابة الساخرة وقلت آنذاك: «أحمد الله أنى لم أقرأ لهم قبل ذلك, لأنى بالتأكيد كنت سأتأثر بهم», وهذا يؤكد أن كل كاتب ساخر, له بصمته ولونه وأسلوبه ومواضيعه التى تجعله يختلف عن الآخر.
الأدب الساخر ضحك كالبكاء. هكذا وصفه المتنبي, فهو معروف من قديم الأزل وهو طريقة تعبير عن المعاناة فأكثر الشعوب معاناة أكثرها سخرية. فهل تتبنى هذا النوع من الأدب لتجاهل الواقع المرير المحيط بك شخصيا وإنسانيا؟
بالطبع حالة الشعور بالظلم بشكل عام فى مجتمعك, وانتشار الفساد والاضطهاد, يضع حالة ساخرة, تنتقد وتخترق الحالة الراكدة, وتحاول التغيير من خلال هذا الأدب. أنا شخصيا لم اختر أن أكون كاتبا ساخرا, لكن الظروف المحيطة صنعت منى ساخرا منتقدا فى كل اتجاه, أوجه كلمات كالرصاص, لتخترق هذه الحالة السوداوية, وبشكل يستطيع المجتمع أن يتجرعه ويتقبله, كحالة مضحكة مبكية, تعبر عما يدور فى عقول الناس, وقد يكون جزء منهم يخاف أن يعبر عنه, نحن ككتاب نتقدم لنعبر عنه ونطلقه للعلن فى محاولة لتصحيح المسار.
الكتابة الساخرة نقد لظواهر اجتماعية وسياسية فى قالب نقدى لايجيده إلا القليلون. هل واجهتك مشاكل مع السلطة الفلسطينية اعتراضا على هذا النوع من الكتابة؟ وهل هناك محاذير تفرضها عليكم الرقابة؟
بالتأكيد دفعت ثمن كتاباتي, وهذا لم يقلل شيئا ولم يجعلنى أتراجع عنه, لأنى اعتبره ضمن مبادئ منطلقات نحملها كإرث لايمكن التنازل عنه, وثابت لكلمة الحق, وبالتالى عانيت ليس الاضطهاد سواء من السلطة بل من حكومة غزة (حماس) واعتقلت عدة مرات فى غزة, واستدعيت ولوحقت فى الضفة ورغم ذلك نحن ثابتون. الأهم من ذلك أن ليس كل الصحف والمواقع تنشر لك هذا النوع, لانها تخضع للرقابة لذلك صفحتى الشخصية أخذت البعد الاكبر فى النشر, لأنه لاقيود على فيها, هناك صحف طلبت منى أن أنشر وفق معايير وشروط لكنى رفضت كل ذلك, الكاتب حر لا قيود عليه.
اخيرا كنت امل ان اشارك بأعمالى فى معرض الكتاب الدولى فى القاهرة بنسخته 52 لكن الاجراءات الاحتلالية وظروف العدوان المستمر وعدم الاستقرار فى الاراضى الفلسطينية حالت دون وجودنا فى القاهرة، وقد حاولت ان اشارك بكتابى الجديد اعادة كتابة التاريخ الفلسطينى فى المعرض، الا اننا نأمل ان يكون ذلك فى المرات القادمة، واعتقد ان توافر منصة الكترونية قد يسهل متابعتنا لفعاليات المعرض الكترونيا.
رابط دائم: